الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«الباعث حضرة البعث»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[63] - «الباعث حضرة البعث»

حضرة البعث حضرة الإرسال *** فلها الصدق وهو من أحوالي‏

كلما قلت قد أتاني رسول *** منه يبغي دون الأنام سؤالي‏

تهت عجبا به وقلت أنيسي *** أنت والله إن خطرت ببالي‏

إني بعثت إلى المحبوب في السحر *** بما أتيت به من صادق الخبر

وقلت إن كنت تدري ما أفوه به *** من شاهد الحب فلتنهض على أثري‏

لما شهدتك يا من لا شبيه له *** لا فرق عندي بين الستر والنظر

فالكشف ينبئ عن أسرار موجدة *** بما يشاهده في الشمس والقمر

إن البصائر أغنتني حقائقها *** عما يشاهد رب الكشف بالبصر

[بعث الرسل وأنزل الكتب وحشر الناس‏]

يدعى صاحبها عبد الباعث قال تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ وقال وأَنَّ الله يَبْعَثُ من في الْقُبُورِ وقال وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فمن هذه الحضرة بعث الرسل وأنزل الكتب وحشر الناس بعد أن أنشرهم ثم بعث بهم من هذه الحضرة إلى منازلهم يعمرونها من جنة ونار كل بشاكلة عمله فيبعثهم ويبعث إليهم فالبعث لا ينقطع في الدنيا والآخرة والبرزخ غير أن الرسل عرفاء لا تمشي إلا بين الملوك لا بين الرعايا وإنما تخاطب الرؤساء والعرفاء فالإرسال من الله إنما أرسلهم من كونه ملكا إلى النفوس الناطقة من عباده لكونهم مدبرين مدائن هياكلهم ورعاياهم جوارحهم الظاهرة وقواهم الباطنة فما تجي‏ء رسالة من الملك إلا بلسان من أرسل إليهم قال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فيبعث الله رسله إلى هذه النفوس الناطقة وهي التي تنفذ في الجوارح ما تنفذ من طاعة ومخالفته ولها قبول الرسالة والإقبال على الرسول والتحفي به أو الإهانة وقد يكون الرد بحسب ما أعطاها الله من الاستعداد من توفيق أو خذلان فجعل النفوس ملوكا على أبدانها وأتاها ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً من الْعالَمِينَ وهو طاعة رعاياها لها فالجوارح والقوي لا تعصى لها أمرا بوجه من الوجوه وسائر الملوك الذين رعاياهم غير متصلين بهم قد يعصون أوامر ملوكهم كما إن من هؤلاء الملوك قد يعصى ما أمره به الملك الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله إليهم وقد يطيع فتوجيه الرسل وبعث الله إليهم أثبت لهم كونهم ملوكا فلما أنزلهم منزلته في الملك علمنا أنه لو لا ما ثم مناسبة تقتضيه ما كان هذا فإذ المناسبة في أصل الخلقة وهي قوله تعالى ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي فهو ولاة وملكه وجعله خليفة عنه فمنهم من خرج عليه كفرعون وأمثاله ومنهم من لم يخرج عليه فما كانت الرسل إلا إلى ولاته ثم إن هؤلاء الملوك النواب وجهوا أيضا منهم إليه تعالى إرسالهم يطلبون منه ما يؤيدهم به في تدبير ما ولاهم عليه فصار الملك ملك الملك لهذا السبب فمنه إليهم ومنهم إليه فما وجه ولا بعث إرساله إلا إليه وما قبل الإرسال إلا منه فإنهم من روحه وجدوا ومن عين كونه كانوا وهنا أمور وأسرار أعني في خروجهم عليه كما يخرج الولد على والده والعبد على سيده إذا ملكه يسعى في هلاكه مع إحسانه إليه وبايع على قتله لينفرد هو بالملك وهذا واقع في رد الأفعال إليهم وليست إلا إلى الله تعالى وغاية الموفق منهم الاشتراك في الأمر وهو الشرك الخفي فشرع لهم سبحانه قول لا حول ولا قوة إلا بالله رحمة بهم وقوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وقنع منه بذلك من كونه حكيما ولما علم إن مثل هذا الشرك يقع منهم والدعوى أمرهم بالاستعانة بالله تقريرا لدعواهم حتى يكون ذلك عن أمره فأمثالنا يقول مثل هذا كله تعبدا ويثابر عليه بخلاف من لا يعلم وما قرر الحق لعباده هذا إلا غيرة فيتخذون ذلك عبادة ويقولون إذا رجعوا إليه وكان الملك لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ في موطن الجمع وسألوا عن مثل هذا الشرك الخفي يقولون أنت أمرتنا بالاستعانة بك فأنت قررت لنا أن لنا قوة تنفرد بها وإن كان أصلها منك ولكن ما لها النفوذ لا بمعونتك فطلبنا القوة منك فإنك ذو القوة المتين فيصدقهم الله في كونهم جعلوا القوة منه التي فيهم وإنهم رأوا فيها القصور لخاصية المحل فما لها نفوذ الاقتدار الإلهي إلا بمساعدة الاقتدار الإلهي فإن العجز والجبن والبخل في الخلق ذاتي لازم في جبلته وأصل خلقه إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً فإذا تكر وتشجع فنصرته من المكانة والاكتساب والتخلق بأخلاق الله حيث كان في ذاته روحا منه فأثرت البقعة كما تؤثر البقعة في الماء بما يوجد من الملوحة والمرارة

وغير ذلك من المطاعم والماء من حيث هويته على صفة واحدة من الطيب والطعم فانظر إلى ما أثرت فيه البقعة كذلك هي الأرواح المنفوخة في الأجسام من أصل مقدس نقي فإن كان المحل طيب المزاج زاد الروح طيبا وإن كان غير طيب خبثه وصيره بحكم مزاجه فرسل الله الذين هم خلفاؤه أطهر الناس محلا فهم المعصومون فما زادوا الطيب إلا طيبا وما عداهم من الخلفاء منهم من يلحق بهم وهم الورثة في الحال والفعل والقول ومنهم من يختل بعض اختلال وهم العصاة ومنهم من يكثر منه ذلك الاختلال وهم المنافقون ومنهم المنازع والمحارب وهم الكفار والمشركون فيبعث الله إليهم الرسل ليعذروا من نفوسهم إذا عاقبهم بخروجهم عليه واستنادهم إلى غيره الذي أقاموه إلها فيهم من أنفسهم وكذبوا عليهم في جعلهم إياهم آلهة والإله لا يكون بالجعل ولكن ما حملهم على ذلك إلا أصل صحيح وهو أنهم رأوا اختلاف المقالات في الله مع الاجتماع على أحديته وأنه واحد لا إله إلا هو ثم اختلفوا فيما هو هذا الإله فقال كل صاحب نظر بما أداه إليه نظره فتقرر عنده أن الإله هو الذي له هذا الحكم وما علم أن ذلك عين جعله فما عبد إلا إلها خلقه في نفسه واعتقده سماه اعتقادا واختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا والشي‏ء الواحد لا يختلف في نفسه فلا بد أن يكون هو في نفسه على إحدى هذه المقالات أو خارجا عنها كلها ولما كان الأمر بهذه المثابة أثر وهان عليهم اتخاذ الأحجار والأشجار والكواكب والحيوانات وأمثال ذلك من المخلوقات آلهة كل طائفة بما غلب عليها كما فعل أهل المقالات في الله سواء فمن هذا الأصل كان المدد لهم وهم لا يشعرون فما ترى أحدا يعبد إلها غير مجعول فيخلق الإنسان في نفسه ما يعبده وما يحكم عليه والله هو الحاكم لا ينضبط للعقل ولا يتحكم له بل له الأمر في خلقه من قبل ومن بعد لا إله إلا هو إله كل شي‏ء ومليكه وهذا كله من الاسم الباعث فهو الذي بعث إلى بواطنهم رسل الأفكار بما نطقوا به واعتقدوه في الله كما أنه بعث إلى ظاهرهم الرسل المعروفين بالأنبياء والنبوة والرسالة فالعاقل من ترك ما عنده في الله تعالى لما جاءوا به من عبد الله في الله فإن وافقوا ما جاءت به رسل الأفكار إلى بواطنهم كان وشكروا الله على الموافقة وإن ظهر الخلاف فعليك باتباع رسول الظاهر وإياك وغائلة رسل الباطن تسعد إن شاء الله وهذا نصيحة مني إلى كل قابل ذي عقل سليم وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!