الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة الأرزاق وهي للاسم الرزاق»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[18] - «حضرة الأرزاق وهي للاسم الرزاق»

الرزق رزقان محسوس ومعقول *** يدري بذلك معقول ومنقول‏

فمنه يقبل ما يعطيه من منح *** وذلك الرزق في التحقيق مقبول‏

جل الإله فما تحصى عوارفه *** وفي معارفها هدى وتضليل‏

مثل النكاح الذي يحوي على عجب *** من التلذذ تلسين وتقبيل‏

قال الله تعالى في قصة مريم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ من عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وقال ومن يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويَرْزُقْهُ من حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الرزاق قال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ من رِزْقٍ وما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ هذا في حق من أطعم من أجله حين سمعه‏

يقول سبحانه في الخبر الصحيح جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني فيقول العبد كيف تطعم وتشرب وأنت رب العالمين فيقول الحق إن عبدي فلانا جاع وفلانا ظمى‏ء فلو أطعمته حين استطعمك أو سقيته حين استسقاك‏

فذلك معنى قوله تعالى جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني فأنزل نفسه تعالى منزلة الجائع والعاطش الظمآن من عباده فربما أدى العامل على هذا الحديث الإلهي أن يجهد في تحصيل ما يطعم به مثل هذا حتى يكون ممن أطعم الله تعالى فقال له الله وما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ انتقال من مقام إلى مقام لأنه يعلم عباده العلم بالمقامات والأحوال والمنازل في دار التكليف حتى يتنقلون فيها ثم قال إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ والمتانة في المعاني كالكثافة في الأجسام فجاء بالاسم المناسب للرزق لأن الرزق المحسوس به تتغذى الأجسام وتعبل وكلما عبلت زادت أجزاؤها وكثفت وأين السمن من الهزال فما أحسن تعليم الله وتأديبه وتبيانه لمن عقل عن الله‏

[الرزق رزقان‏]

واعلم أن الرزق معنوي وحسي أي محسوس ومعقول وهو كل ما بقي به وجود عين المرزوق فهو غذاؤه ورزقه وقوله وفي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وقال في الأرض وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وهي الأرزاق وتقديرها بوجهين الوجه الواحد كمياتها والثاني أوقاتها فالرزق الذي في الأرض ما تقوم به الأجسام والذي في السماء ما تقوم به الأرواح وكل ذلك رزق ليصح الافتقار من كل مخلوق وينفرد الحق بالغنى وأرفع المنازل في الأرزاق وشهودها رزق ما يظهر به عين الوجود الحق من صور أحكام‏

الممكنات ومن صور التجلي فينظر صاحب هذه المشاهدة إلى الصورة في التجلي أو لصور أحكام الممكنات في عين الوجود الحق فينظر ما تستحقه تلك الصورة من مسمى الرزق وما تطلبه لبقائها فيكون هذا العبد يرزقها ذلك إذا كان مشهده هذه الحضرة أعني حضرة الأرزاق ثم ينزل الأمر في الكائنات الخلقية والأمرية بحسب حقائقها فيطلب عين الكون رزقه منه وأكثفه ما تطلبه المولدات من الأركان كالمعادن والنبات والحيوان وقد جعل الله من الماء كل شي‏ء حي وكل شي‏ء حي فإن كل شي‏ء مسبح لله بحمده ولا يكون التسبيح إلا من حي فكل شي‏ء من الماء عينه ومن الهواء حتى حيوان البحر الذي يموت إذا فارق الماء ما حياته إلا بالهواء الذي في الماء لأنه مركب فيقبل الهواء بنسبة خاصة وهو أن يمتزج بالماء امتزاجا لا يسمى به هواء كما أن الهواء المركب فيه الماء وبه يكون مركبا لكن امتزج الماء به امتزاجا خاصا لا يسمى به ماء فإذا كانت حياة الحيوان بهواء الماء مات عند فقده ذلك الهواء الخاص وكذلك حيوان البر إذا غرق في الماء مات لأن حياته بالهواء الذي مازجه الماء لا بالماء الذي مازجه الهواء وثم حيوان بري بحري وهو حيوان شامل برزخي له نسبة إلى قبول الهواءين فيحيي بالهواء كما يحيي البري ويحيي في الماء كما يحيي البحري وبالهواء تكون حياته في الموضعين والماء أصله في كونه حيا فالرزق في عالم الأركان الهواء فيما في كل مطعوم ومشروب من ركن الهواء به تكون الحياة لمن يتغذى به من كل شي‏ء حي من نبات ومعدن وحيوان وإنسان وجان وأما الملائكة المخلوقة من أنفاس العالم عند تنفسهم فلهم غذاء أيضا من الأركان لا بد من ذلك ويخرج الملك من المتنفس بحسب ما يكون في قلب ذلك المتنفس من الخواطر فإن تلفظ المتنفس خرج النفس بحسب ما تلفظ به مفصلا في الصورة تفصيله حروفا في الكلمة وبهذا القدر تكون كيفية الانفعال عن خواص الحروف لمن شهد ذلك وإن لم يتلفظ وخرج النفس من غير لفظ فإنه يخرج هيولائيا لا صورة له معينة فيتولى الله تصويره بحسب ما كان عليه العبد في باطنه عند التنفس فيركبه الله في تلك الصورة فإن تعرى المحل المتنفس عن كل شي‏ء كتنفس النائم الذي لا رؤيا له في منام ولا هو في الحس فإن الله يصور ذلك النفس بصورة ما نام عليه عند فراقه الإحساس كان الذكر ما كان أو الخاطر في القلب ما كان فإذا أقيم العبد في هذه الحضرة التي نحن بصددها ونظر إلى ما تكون عنه أمده من الرزق ما به بقاؤه فإنه خالقه والرزق تابع للخلق فخالق الشي‏ء هو رازقه ولا تكون في مقام خلق الأشياء إلا إذا أشهدك الحق ما ينفعل عنك فعند ذلك تشاهد طلبة ما تكون عنك بما يحتاج إليه من الرزق فترزقها كما تسعى هنا في اقتناء الرزق الذي تطلبه منك عائلتك سواء وهذا لا يقدح في إن الله هو الرزاق وإنما كلامنا في تقرير الأسباب وإثباتها كما قررها الحق عز وجل وأثبتها

[إذا تجلى الحق للإنسان في أي حالة]

وقد بينا لك في غير موضع أن الإنسان إذا تجلى له الحق في منام أو غيره في أي صورة تجلى فلينظر فيما يلزم تلك الصورة المتجلي فيها من الأحكام فيحكم على الحق بها في ذلك الموطن فإن مراد الله فيها ذلك الحكم ولا بد ولهذا تجلى فيها على الخصوص دون غيرها ويتحول الحكم بتحول الصور فاعلم ذلك فكذلك أيضا رزق الصور يتنوع بتنوع الصور فما به غذاء صورة قد لا يكون به غذاء صورة أخرى وليس غذاء الصور سوى رزقها فإذا تصورت المعاني كالعلم في صورة اللبن والثبات في الدين في صورة القيد فرزق تلك الصورة ما أريدت له فإن كانت رؤيا فأصاب عابرها ما أراد الله بها بتلك الصورة فذلك رزقها فدامت حياتها وبقاؤها وصورة ذلك ما يناله الرائي والمكاشف من ذلك كما

رأى النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يشرب اللبن حتى خرج الري من أظافره مما تضلع منه فقيل له ما أولته يا رسول الله فقال العلم‏

يعني أن العلم ظهر في صورة اللبن ولما كان العلم لبنا وصف نفسه بالشرب منه والتضلع إلى أن خرج الري من أظافره فنال كما قال علم الأولين والآخرين وما خرج منه من الري هو ما خرج إلى الناس من العلم الذي أعطاه الله لا غير ثم أعطى ما فضل في الإناء عمر فكان ذلك الفضل القدر الذي وافق عمر الحق فيه من الحكم كحكمه في أسارى بدر وفي الحجاب وغير ذلك ففاز به دون غيره من عند الله وهكذا كل من حصل له مثل هذا من عند الله كالمتقي إذا اتقى الله جعل له فرقانا وهو علم يفرق به بين الحق والباطل في غوامض الأمور ومهماتها عند تفصيل المجمل وإلحاق المتشابه بالمحكم في حقه فإن الله أنزله متشابها ومجملا ثم أعطى‏

التفصيل من شاء من عباده وهو ما فضل من اللبن في القدح وحصل لعمر لأنه من شرب من ذلك الفضل فقد عمر به محل شربه فلذلك كان عمر دون غيره من الأسماء هذا تعبير رؤياه على التمام صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولعمر بن الخطاب في ذلك خصوص وصف لاختصاصه بالاسم والصورة في النوم دون غيره من العمريين ومن الصحابة ممن ليس له هذا الاسم فكل رازق مرزوق أما الرزق المعنوي أو الحسي على انقسام الأرزاق المعنوية والمحسوسة ومن هذه الحضرة قوله تعالى ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ فحتى نعلم رزق الابتلاء أي كونه الله من الابتلاء فهو علم إقامة الحجة لتكون الحجة البالغة لله كما أخبر عن نفسه فقال فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التي لا دخل عليها ولا تأويل فيها وإذا وصف الحق نفسه ب حَتَّى نَعْلَمَ فعم حكم الرزق جميع الصور فكل الصيد في جوف الفرا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!