الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


83. الموقف الثالث والثمانون

قال تعالى: ﴿{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى: 93/ 11].

هذه الآية الكريمة ألقيت علي بالإلقاء الغيبي مراراً عديدة لا أحصيها، ول يخفى ما قاله فيها عامة أهل التفسير، ومما ألقي علي فيها: أن المراد بالنعمة هن نعمة العلم والمعرفة بالله تعالى ـ، والعلم بما جاءت به الرسل (عليه السلام) من المعاملات والأمور المغيبات. ولاشك أن هذه النعمة أعظم النعم، وإطلاق النعمة على غيرها مجاز بالنسبة إليها، والمراد بالتحدث بها إفْشاؤها وبثها لمستحقيه المستعدين لقبولها. إذ ما كل علم يصلح لكل الناس، ولا كل الناس يصلح لكل علم بل لكل علم أهل، لهم استعداد لقبوله، وهمة والتفات إلى تحصيله.

أو يكون المراد إظهار النعمة بما هو أعم من القول والفعل، كما في الخبر:

«إنَّ الله إذا أنعم على عبد نعمة، أحب أن يرى أثر نعمته عليه».

فإذا كانت النعمة مما يظهر بالفعل، أظهرها بالفعل، وإذا كانت مما يظهر بالقول أظهرها بالقول. والتحدث بها، على حد ما قيل في الحمد العرفي، أعم من أن يكون باللسان والجنان والأركان.

ومن بعض نعم الله عليَّ: أنني منذ رحمتي الله تعالى بمعرفة نفسي، م كان الخطاب لي والإلقاء عليَّ إلا بالقرآن الكريم، الذي:

﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[فصلت: 41/ 42].

والمناجاة بالقرآن من بشائر الوراثة المحمدية، فإن القوم، أرباب هذ الشأن، قالوا: كل من نوجي بلغة نبي فهو وارث ذلك النبي، صاحب تلك اللغة، ومن نوجي بالقرآن كان وارثاً لجميع الأنبياء، وهو المحمدي، لأن القرآن متضمن لجميع اللغات، كم أن مقام محمد (صلى الله عليه وسلم) متضمّن لجميع المقامات.

ومنها أني لما بلغت المدينة طيبة، وقفت تجاه الوجه الشريف بعد السلام عليه (صلى الله عليه وسلم) وعلى صاحبيه اللذين شرفهما الله تعالى بمصاحبته، حياة وبرزخاً، وقلت: يا رسول الله، عبدك ببابك، يارسول الله، كليمك بأعتابك، يا رسول الله، نظرة منك تغنيني، يا رسول الله، عطفة منك تكفيني، فسمعته (صلى الله عليه وسلم) يقول لي: «أنت ولدي ومقبول عندي»، بهذه السجعة المباركة. وما عرفت هل المراد ولادة الصلب، أو ولادة القلب؟! والأمر من فضل الله تعالى أنهما مرادان معاً، فحمدت الله تعالى ـ، ثم قلت في ذلك الموقف اللهم حقق هذا السماع برؤية الشخص الشريف، فإنه (صلى الله عليه وسلم) ضمن العصمة في الرؤية فقال:

«من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي».

وما ضمن العصمة في سماع الكلام، ثم جلست تجاه القدمين الشريفين، معتمداً على حائط المسجد الشرقي، أذكر الله تعالى فصعقت وغبت عن العالم وعن الأصوات المرتفعة في المسجد بالتلاوة والأذكار والأدعية وعن نفسي، فسمعت قائلاً يقول: هذ سيدنا التهامين فرفعت بصري في حال الغيبة فاجتمع به بصري، وهو خارج من شباك الحديد، من جهة القدمين الشريفين، ثم تقدم إلى الشباك الآخر، وخرقه إلى جهتي؛ فرأيته (صلى الله عليه وسلم) فخماً مفخماً بادناً متماسكاً، غير أن شيبه الشريف أكثر وحمرة وجهه أشد مما ذكره أصحاب الشمائل، فلما دنا مني رجعت إلى حسي، فحمدت الله تعالى:

ثم جعلت أذكر الله تعالى فصعقت كالأولى، فورد علي قوله تعالى: ﴿إِذَ دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا﴾[الأحزاب: 33/ 53].

فلما رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى ـ، ونظرت في الآية الكريمة؛ فوجدتها مشتملة على أنواع من البشائر، فإن «إذا» تقيد التحقيق، فهي في قوة، "وقد دعيتم". و"دعيتم" مبني للمجهول، يشمل دعاء الحق تعالى والرسول (صلى الله عليه وسلم) والأمر بالدخول بعد الدعوة فيه غاية التكريم والتشريف، "وإذ طعمتم" إخبار بأن الدعوة للإكرام والإنعام والإطعام، وقوله: "فانتشروا" أمر، بمعنى الإذن في الانتشار بعد الإكرام. وفي الإخبار: بأن الدعوة للإكرام وبالإذن في الانصراف بعد حصول الإنعام غاية العناية ونهاية الكرامة.

ثم توجهت أذكر الله تعالى فصعقت أيضاً، فألقي علي قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ﴾[الحجر: 15/46].﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾[ق: 50/ 34].

فلما رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى على تكرار البشارة.

ثم توجّهت إلى الذكر أيضاً فصعقت فألقي عليَّ قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾[يونس: 10/2].

فلما رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى وعلمت أن قدم الصدق هو (صلى الله عليه وسلم) وأنه يأمرني أن أكون واسطة في إبلاغ هذه البشارة إلى أمته.

ثم زدت متوجهاً في الذكر فصعقت أيضاً، فألقي علي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[آل عمران: 3/73].

فلما رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى ، وعلمت أنه إخبار بأن هذه النعم الحاصلة ما هي جزاء علم ولا عمل ولا حال، ولا هي باستحقاق، وإنما هي فضل وامتنان.

ثم زدت متوجهاً في الذكر فصعقت أيضاً، فألقي علي قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[النحل: 16/ 102].

فلما رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى على ما في هذه الآية من البشائر والأسرار.

ثم زدت متوجهاً في الذكر فصعقت أيضاً، فألقي علي قوله تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾[غافر: 40/ 81].

فلمَّا رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى وقلت: لا أنكر شيئاً من آيات الله، والعبد معترف بفضل مولاه عليه، ثم قمت إلى محل عزلتي، فدخل علي شيخ من أهل الطريق فقال: إذا أردت أن تتوجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاجعل بينك وبينه واسطة من الأكابر مثل عبد القادر الكيلاني، أو محي الدين الحاتمي، أو الشاذلي، وأمثاله. فقلت له: حتى أستأذن سيدي ومولاي الذي أنا في أعتابه، فتوجهت أذكر الله تعالى فصعقت، فألقي علي قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾.[الأحزاب: 33/6].

فلما رجعت إلى حسي حمدت الله تعالى ـ. وعندما رجع عندي ذلك الشيخ قلت: إن سيدي ومولاي، ما أحب أن تكون بيني وبينه واسطة، وأخبرني أنه أولى بي من كل أحد حتى من نفسي. ثم وثم وثم... الخ

وكان ما كان ممَّا لست أذكره               فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

وأول ما فتح لي في عالم الخير والنور: اجتمعت في الواقعة بالخليل (عليه السلام) في المطاف، وكان في مجلس حافل، وهو يحكي قصة تكسير الأصنام. ورأيته في السن الذي كان فيه ذلك الوقت، إذ يقول الله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾[الأنبياء: 21/ 60].

فما رأت عيني أجمل منه، كيف ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) شبّه جماله به، فقال: ((وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ)).

فعلمت أنه يكون لي بعض إرث منه في محبة الخلق، فإنه القائل: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾[الشعراء: 26/ 84].

فأجاب الله سؤاله فاجتمعت على محبته أكثر الملل والفرق، وليس هذا لأحد غيره من سائر الرسل (عليه السلام).


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!