الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


82. الموقف الثاني والثمانون

ورد في الخبر: ((مَنْ لَمْ يَشْكُر النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ))

رواه الإمام أحمد والترمذي يريد (عليه السلام) أن الذي لا يشكر الناس حيث رآهم غيرا وسوى، واعتقد وهماً وتخيلاً أن الحق تعالى مباين لهم ومنفصل عنهم، وأنه في السماء، أو فوق العرش فقط، لم يشكر الله، حيث إنه ما عرفه. وكيف يشكره من لم يعرفه؟ لأنه تعالى ما عرفه من عرفه إلاَّ في مراتب التقييد والظهور والتعين، والناس وجميع المخلوقات والأسباب والوسائط مظاهره وتعيناته ونسبه واعتباراته، فإنها آثار أسمائه وصفاته، بل هي عين أسمائه. إذ ليست الصور المحسوسة المشهودة كائنة ما كانت، روحانية أو مثالية أو جسمانية، إلا أسماء الحق تعالى وهي معان اجتمعت، فحصلت منها هيئة اجتماعية، فكانت صورة محسوسة، كما تقول: اجتمعت البرودة واليبوسة فكانت صورة التراب. واجتمعت البرودة والرطوبة فكانت صورة الماء، مثلاً، والعالم كله هكذا، الناس وغيرهم، ومتعلق الخطاب والحدوث والأمر بالكون، هو هذه المعاني، لتصير هيئة اجتماعية، فتصير صورة محسوسة. فمن عرف الله والناس هذه المعرفة، كان شكره للناس شكراً لله، إذ لا أثنينيّة في الوجود، ومن هناك كان الفعل الصادر من الناس وجميع المخلوقات بداهة وضرورة، هو فعل الله تعالى شرعاً وعقلاً، فأين الله وأين الناس لمن يعقل؟ أفدي من يعقل عنّي بنفسي، وأجعله فوق رأسي.

قال إمام العارفين، محي الدين، عندما تكلم على نسبة الفعل إلى الله وإلى المخلوقات من الأسباب والوسائط، فمن الناس من قال: عندها ولابد، ومن الناس من قال: بها ولابد، ونحن وأمثالنا (يعني المحققين، الذين هم أعلا رتبة في المعرفة من العارفين) نقول: عندها وبها.

وإيضاحه: أنَّ كل شيء له وجهان: وجه إلى الحق، وهو حق من هذا الوجه، وهو وجه الرب الذي لا يفنى، وهو المراد بقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾[الرحمن: 55/ 26 27].

ووجه إلى سببه الذي ظهر عنه، وهو الفاني العدم الباطل. وقد نفى الحق تعالى التأثير عنه في هذا الوجه، بقوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 16/ 40]. فإذا رأيت العارف يشكر مخلوقاً ويثني عليه ويعظمه ويلحظه، فمن هذه الحيثية. فلا تظن أنه يرى الناس وسائر المخلوقات كما تراهم أنت، وأن بينهم وبين الحق تعالى بوناً، معاذ الله. ومن هنا صح ما أخبر به تعالى في قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ﴾[البقرة2/ 115]. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَ كُنتُمْ﴾[الحديد: 57/ 4].﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[ق: 50/ 16].

فاعرف الحق واحذر الغلط والسلام.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!