الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


60. الموقف الستون

قال تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾[الإسراء: 17/ 111].

أي تكبيراً بالغاً في الفخامة والضخامة غاية ما يتصوّر. وإنما أمر المصلّى بقول: «الله أكبر» عند دخوله في الصلاة، وعند انتقالاته في الركوع والسجود والرفع منه، إلى تمام الصلاة، لكونه أمر بأن يعبد الله، كأنه يراه، وأن يعتقد أن الله تعالى في قبلته، وأنه مطلع عليه يراه، وأنه بينه وبين القبلة، وأنه يناجيه...... وأمثال هذا، ممّا ورد في الأخبار الصحيحة، وكل هذا يستلزم التخييل والتصوير لا محالة. وكلّ مصل، بل مخلوق، يتصوّر معبوده ويتخيّله، بمعنى أنه يعتقد في معبوده أنه كذا وليس كذا؛ وهذا هو التصور والتخيل. فلما كان الأمر هكذا، وعلى ما ذكرنا، أمر المصلي وغير المصلي أن يقول: الله أكبر، بصيغة المفاضلة، أي مسمّى الله في مرتبه إطلاقه أكبر وأعظم من أن يتخيّل أو يتصوَّر أو تحوم حول حماه شائبة تقييد بجهة أو صفة، أو يحصره نعت أو اعتقاد. فإنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 42 /11].

وكما نفت هذه الآية الكريمة المثليّة، نفت الضدّية، فلا مثل له تعالى ـ فيدانيه، ولا ضدَّ له فيناوبه، بل هو المطلق حتى عن الإطلاق، لأن الإطلاق تقييد له بالإطلاق، وإنما ضرورة التعبير أحوجت إلى ذكر الإطلاق، ونحوه من الألفاظ الضرورية، فالمفاضلة إذا على بابها، بمعنى أنه تعالى في مرتبة إطلاقه، أكبر منه وأعظم في مرتبة تقييده، وهو هو في المرتبتين لا غير، من غير تغيير يلحقه، ول تحويل، فهو المطلق في آن تقييده، المقيّد في آن إطلاقه، كما أنه الأول في غير آخريته، الآخر في عين أوليته، الباطن في عين ظاهريتّه، الظاهر في عين باطنيته.... ولما كان الحق تعالى فاعلاً لأفعالنا في مرتبة التقييد، جاءت صفة المفاضلة في الكتب المنزلة، وفي السنَّة المفضلة، كقوله تعالى: ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[المؤمنون: 23: 14]، ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[المائدة: 5/114]،[الحج: 23/ 58]، [المؤمنون: 23/ 72]، [سبأ: 34/ 39]، [الجمعة: 62/11]، ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾[المرسلات: 23].

ونحو هذا، وفي السنَّة:

فإنه «للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ». الحديث بطوله.

ونحوه كثير. فكلّ هذا باعتبار مرتبة الإطلاق والتقييد، فهو مفضل على نفسه باعتبارين، كمسألة الكحل عند النحاة. وإنما أمر الشارع (صلى الله عليه وسلم) بحضرة الإحسان، للتعليم والتأنيس. فإذا دخلها العبد، وأراد الله رحمته رحمة كاملة، رفعه منها إلى رؤيته تعالى في كلّ جهة، حيث لا جهة، بل يرى حقيقته هو لا جهة لها، فيرى الحقّ في الخلق، والخلق في الحق، من غير حلول ولا اتحاد، ولا زندقة في هذا ولا إلحاد، وإنما هو توحيد محض، ورفض للشرك ودحض، ومن ذاق عرف، ومن جهل لجّ وما أنصف، ولو سلّم كان له أسلم.

لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده         ولا الصبابة إلاَّ من يعانيه

اللهم زدني علماً بك، فأنت خير مسؤول، وأكرم مأمول.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!