الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


53. الموقف الثالث والخمسون

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت: 29 / 69].

أي الذين بارزوا أنفسهم بالمجاهدات والرياضات فينا، بسبب الوصول إلين وإلى جنة معرفتنا ومشاهدتنا، لنهدينَّهم، لنعرفهم سبلنا، الطرق الموصلة إلينا، فإنهم ما جاهدوا في غيره، لا دنيا ولا آخرة، ثم ليعلم: أن دخول جنة المعارف والمشاهدة خلاف دخول جنّة اللذايذ المحسوسة. فجنة المعارف والمشاهدة دخولها غالباً بالكسب والمجاهدة، كما قال ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ أي جاهدوا أنفسهم بسببنا. ثم تقسم بالوهب والجود الإلهي والاستعداد، ودخول جنة اللذات المحسوسة يكون بالرحمة، ثم تقسم بالأعمال، كما ورد في الخبر:

«ادخلوها برحمتي واقتسموها بأعمالكم».

والحكمة في هذا الاختلاف أنَّ جنَّة اللذَّات المحسوسة يستحقها كل مؤمن ولو بعد حين، بحسب الوعد الصادق، فلو منعها مؤمن دون مؤمن لدخل النار وخلد فيها، إذ ليس هناك إلا داران، وهما ضّدان. فلهذا كانت الرحمة العامة سبباً في دخولها. وأم جنة المعارف، فإنها مخصوصة بقوم مخصوصين، من خواصّ المؤمنين، أصحاب المجاهدات والرياضات. فإذا لم يدخلها بعض المؤمنين دخل جنة اللذات المحسوسة. ولو دخل المؤمنون كلهم جنة المعارف والمشاهدة في الدنيا، مادخل أحد من المؤمنين النار يوم القيامة. وقد سبق العلم القديم والإرادة الأزلية، بدخول طائفة من عصاة المؤمنين النار، ثم يخرجون بالشفاعة. ومما يجب اعتقاده بأنه لابدَّ من نفوذ الوعيد في طائفة من عصاة المؤمنين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!