الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


46. الموقف السادس والأربعون

قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾[الرحمن:26 ـ 27].

الجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي استقر عليها أي الأرض. ولا تدخل العلويات لأنها ليست بمستقرة على الأرض. والمستقر على الأرض المحكوم عليه بالفناء، هو الصور الأرضية التي تدبّرها الأرواح العلوية. والفناء هنا ضد الوجود، وإن كان في غير هذا المحل ضدّ البقاء. والمراد: أنها فانية في الحالة الراهنة، وإن حصل الشعور بوجودها فهو شعور مخالف لما في نفس الأمر. وهذا الشعور من غلطات الحس والعقل، ولهما غلطات كثيرة، بعضهم ينسبها إلى الحس، وبعضهم ينسبها إلى العقل، لأنه الحاكم، وهذا هو الحق. فهذا الشعور والحكم من جملتها، لأن قوله «فانٍ» اسم فاعل، وهو حقيقة في الحال اتفاقاً.. ولا يعدل عن الحقيقة إلاَّ عند التعذّر، أي تعذّر الحمل عليها.

وجه الحق تعالى ذاته، باعتبار قيومّيته تعالى على كلّ موجود، أي يبقى العلم بوجهه الذي هو وجوده وذاته تعالى حين يرتفع اللبس، وتظهر الحقيقة، ويتبيّن أنَّ كل شيء قيل فيه «سوى وغير» فهو باطل معدوم في الحال والاستقبال، إذ لا وجود إلاَّ الوجود الحق في الحال والاستقبال. ولا يتوهّم متوهّم أن الآية تدل على أن م على الأرض له وجود في الحال، وإنما يفنى في ثاني حال، فإنه وهم باطل. وإنما مثل هذا قول القائل من العارفين: حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل. يعني: يفنى الشعور والظن الذي كان يظن أنه علم بوجوده، لا أنه كان وجوداً وانعدم وفني. لأنه قال: «لم يكن» أي لم يوجد مع الشعور، والظن الباطل بأنه وجود، فهو عدم، في آن الشعور بوجوده. فإذا ارتفع الحجاب الذي هو الجهل لا غير، فلا يقع العيان إلاَّ على فقد الأعيان، يعني إذا حصلت المعاينة الحقيقية، الموافقة لما في نفس الأمر فلا تقع إلاَّ على فقد الأعيان، أي عدم ما كان يتوهم أنه أعيان ثابتة مغايرة للوجود الحق تعالى فليس إلاَّ الوجود الحق الظاهر بالمظاهر التي هي: خيال ووهم:

إنما الكون خيال

وهو حقّ في الحقيقة

كل ممن قال بهذ

 

حاز أسرار الطريقة

وقد وافقت السوفسطائية على كون كلّ محسوس من العالم خيالاً، ليست له حقيقة. فلو قالوا كقول العارفين: ا لعالم خيال، وباطنه حق ثابت، أي هو حق في صور خيالية، لأصابوا الحقّ. ويحتمل أن يكون الضمير في «عليها» عائداً على معهود ذهني، ومقرّر علمي، وهو حقيقة الإمكان، أي كلّ من سلك على طريقة الإمكان، وصحّ وثبت مروره على حقيقة الممكن، فهو فان هالك حالاً، لا وجود له. وحينئذٍ يشمل حكم العدم في الحال كل ممكن من المظاهر العلوية، كالأرواح المجرّدة، والصور المثالية، والأجسام والمعاني... وكل ما يسمى: غير أو سوى.

«كان الله ولا شيء معه» وكان هنا تامّة، أي الله وجود. ولا شيء معه بوجود. وهذا الوجه. والاحتمال يشمل كل ممكن كما قلنا، بخلاف الأول، فإنه خاصّ بمن على الأرض، فيحتاج إلى دليل آخر على عدم كلّ ممكن في الحال الحاضرة. ومن المعلوم أن الإمكان الذي هو حقيقة كل ممكن، لا عين له قائمة، وإنما هو أمر معقول لأنه برزخ بين الوجود المطلق، والعدم المطلق الذي هو الحال، والبرزخ لا يكون إلاَّ معقولاً، فلو كان محسوساً ماكان برزخاً. إذ حقيقة البرزخ هو الأمر المعقول الحاجز بين الشيئين، ل يكون عين واحد منهما، ولا خارجاً عنهما..


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!