الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


347. الموقف السابع والأربعون بعد الثلاثمائة

قال تعالى:﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً﴾[الدهر: 76/8 - 9] .

اعلم أن «علي» في قوله «على حبه» يصح أن تكون بمعنى عن، أي متجاوزين حبه إلى بذله لوجه الله تعالى . ويكون الضمير عائداً على الطعام، ويصح أن تكون بمعنى في على تقدير مضاف أي في يوم حبه، أي حب الطعام كما قال: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾[البلد: 90/14].

ويكون الضمير عائداً على الطعام أيضاً، ويصحّ أن تكون بمعنى اللام، أي لأجل حبه، ويكون الضمير بعائداً على الله تعالى - في قوله:﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾[الإنسان:76/6].

كما قال:﴿ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾[ البقرة: 2/177].

أي لأجل حبّ الله تعالى - والمطعمون الطعام من حيث أنهم مطعمون طوائف، طائفة تطعم الطعام لوجه الله، أي لأجل بقاء الوجه الإلهي الذي قامت به الصورة ظاهراً بها نافذ الحكم فيها، فإن لك صورة وجها إلهياً، أي اسماً إلهياً توجه به الحق تعالى إلى إيجاد تلك الصورة، وهو الوجه الخاص بتلك الصورة دون سائر الصور، وهو سرّ الله تعالى بينه تعالى وبين كل مخلوق، وهو الذي طلب من الاسم الجامع إيجاد تلك العين والصورة. وإلى هذا الإشارة بما ورد في الصحيح قوله تعالى: «مرضت فلم تعدني وظمئت فلم تسقني». الحديث بطوله.

ووجه الشيء ذاته، فافهم واحذر أن تتوهم حلولاً أو اتحاداً أو نحو هذا. وهذا الوجه هو المسمى عند الطائفة العلية بالوجه الخاص، أي الخاص بتلك الصورة وتلك العين لا يشاركه فيهاغيره من الأسماء من حيث الصورة لا من حيث العوارض العارضة لحقيقة الصورة. فإن الأسماء الإلهية تتداول على الصور تداول الأمراء على المملكة، وهذ الوجه الخاص هو لكل صورة كانت ما كانت من صورة ملكية أو إنسانية أو حيوانية أو نباتية أو جمادية أو عقلية أو خيالية، إذ لكل موصوف بالوجود وجه خاص ينفرد الحق تعالى بعلمه لا يعلمه العقل الأول ولا النفس الكلية، وهو واسطة المدد بين الله تعالى وبين كل مخلوق، وهو روح الروح وسرّ السر، ولا يدخل تحت عبارة ولا يقدر مخلوق على إنكاره فهو المعلوم المجهول وهوالتجلّي في الأشياء المبقى لأعيانها، وأمّ التجلي للأشياء فهو تجل يفني أحوالاًَ ويعطي أحوالاً في المتجلى له. وإذا تحلل السائر إلى الله تعالى واضمحل تركيبه في معراج التحليل لا يبقى منه إلى هذ الوجه الخاص، ولا يرى الحقّ مما يراه إلاّ هذا الوجه، ولايسمع كلام الحق إلا بهذا، ولا يعبد كل عابد من الحضرة الجامعة إلاّ هذا الوجه، ولا يسمع كلام الحق إلا بهذا، ولا يعبد كل عابد من الحضرة الجامعة إلاّ هذا الوجه الخاص به، ولا يعرف إلاّ هو، وهو العلامة التي بين العباد وربهم التي يتحول فيها إذا أنكروه يوم القيامة فيعرفونه على الكشف وفي الدنيا على الغيب، يعلمه كل إنسان من نفسه، ولا يعلم أنه يعلم. وهذ الوجه أعلى ما يصل الكمل إلى الأخذ منه في مرتبة الولاية إذا ترقوا عن الأخذ عن الأرواح والوسائط، فما دامت الصورة موصوفة بالوجود كان ذلك الوجه الخاص ظاهر الحكم، وإذا أخفيت خفي حكم ذلك الوجه الخاص، وكل ذكر في القرآن وجه الله كقوله: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ﴾[ البقرة: 2/115].

فالمراد هذا الوجه. وهذه الطائفة لا تخص بإطعامها إنساناً من حيوان أعجم ولا مؤمناً من كافر ولا مطيعاً من عاص، بل يفعلون مع الصور النباتية والجمادية ما به بقاء وجه الله ظاهراً، فإنه الوجه الذي يشاهده المشاهدون من العارفين في كل مخلوق، كما قال إمام العلماء بالله ختم الولاية محي الدين الحاتم رضي الله عنه :

انظر إلى وجهه في كل حادثة

من الكيان ولا تخبر به أحد

وقال بعضهم: ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله معه. وقال الآخر: ما رأيت شيئاً إلاّ الله فيه. «لا نريد منكم جزاء». أي لا نريد أن يحصل لنا بسبب إطعامكم جزاء، وهو ما يجازي به الله تعالى المطعمين ويثيبهم به في الدار الآخرة، إذ اليتيم والمسكين والأسير لا يتصور منهم جزاء وإثابة لمن أطعمهم، وإنما قالوا ذلك لأن من المطعمين من يريد بإطعامه الجزاء والثواب من الله تعالى وهذه هي الطائفة الثانية وهي أحط رتبة وأنزل منزلة من الطائفة الأولى. كما قال تعالى:﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾[الروم:30/39].

وقال:﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[الروم :30/38].

وهذه الطائفة الثانية تخص بإطعامها دون الكافر، والمطيع دون العاصي، والحيوان دون النبات والجماد.

«ولا شكورا». أي ولا نريد أن يحصل لنا بإطعامهم شكورا بأن يشكرنا على ذلك الناس ويمدحوننا بالسخاء ويبقى لنا الذكر الجميل، وهذه هي الطائفة الثالثة ول حظّ لها عند الله تعالى وإنما حظها وجزاؤها في الدنيا ما أرادت وقصدت بإطعامه من شكر الناس لهم وذكرهم بالجميل كما قال صلى الله عليه وسلم لابنة حاتم الطائي وقالت له: يا رسول الله، إنّ أبي كان يطعم الطعام ويفك العاني ويفعل كذا وكذا! فقال لها صلى الله عليه وسلم : «إنّ أباك قصد شيئاً فناله»، يعني شكر الناس وذكرهم له بالثناء الجميل، حتى صارت تضرب به الأمثال في الجود والكرم. وبهذا أجاب صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنه لما سألت عن عبد الله بن جدعان القرشي، مات في الجاهلية، وكان يطعم الطعام ويفعل مثل حاتم. ذكر بعض المؤرخين أنه وقع في جفنته التي يطعم فيها الطعام صبي فغرق ومات، وأنه كان يأكل منها الراكب على الجمل.

وهناك طائفة رابعة وهي التي تريد بإطعامها بقاء الصورة الشخصية مسبحة لله تعالى بجميع أجزائها وطوى ذكرها في الآية الكريمة لتلازم الوجه الإلهي والصورة في الظهور، ولكن إرادة الوجه الإلهي بالإطعام أعلى وأفضل، فبين الإرادتين ما بين الوجه الإلهي والصورة، وإن كانا متلازمين.

وعقب كتابتي هذا الموقف: رأيت أني محاصر مكة المشرفة وأنا أملي حديثاً خرجه البخاري في صحيحه، «أن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم، ولا فاراً بجزية». فتحيرت في تأويل هذه الرؤيا. ثم بعد أيام ورد الوارد بتفسيرها وأنا في صلاة، فظهر لي تعلقها بالموقف، وهو أن الحرم كناية عن الوجه الخاص الذي تكلمن عليه في الموقف، وهو الوجه الإلهي، والعاصي العائذ بالحرم هو النفس العاصية، والمحاصر المخاطب لها هو أسماء الانتقام والقهر. والمقصود من ذلك أن لا تغتر نفوس الثقلين بأن لها وجها من الله تعالى فتترك الأوامر المشروعة وتقتحم النواهي الموضوعة فتهلك وتشقى كما هلكت وشقيت بذلك الغرور طوائف ملحدة من الحلولية والاتحادية الإباحية. فانظر ما أعجب هذا الرمز والوعظ وأدقه وأخفاه وألطفه وأرقه: ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾[الأحزاب:33/4].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!