الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


344. الموقف الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا﴾[الشورى: 42/20].

قال: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَ نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: 17/18].

وورد في بعض الأحاديث الربانية أنه أنه تعالى يقول: «يا دنيا من خدمك فاتعبيه ومن خدمني فاتبعيه».

فاعلم أنه لا اختلاف بين الآيتين والحديث الرباني، وإن توهم بأن المراد بالحديث الرباني أمر الدنيا بالإعراض وعدم إقبالها عمن خدمها، بل المراد من قوله (فاتعبيه) أقبلي عليه بوجهك وعانقيه وانبسطي له وتوسعي حتى يتعب ويتعذب بسبب إقبالك عليه، إذ انبساط الدنيا وإقبالها على من خدمها ورغب فيها عقوبة من الله تعالى لخادم الدنيا كما قال لرسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) : ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[التوبة: 9/55].

وقال له: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾[طه: 20/131].

وقوله: (ومن خدمني فاتبعيه) هو أمر من الله تعالى للدنيا بأن تك ون خلف من خدم الله تعالى فلا تواجهه ولا تقبل عليه ولا تنبسط له لئلا تشغله عن خدمته تعالى، وقد ورد في بعض الأحاديث الربانية: «يا دنيا تضيقي وتمرري على أوليائي حتى يحنوا إلى لقائي».

فإن الدنيا شاغلة عن خدمة الله تعالى إلا من رحم ربك وقليل ما هم، كسليمان ـ (عليه السلام) والكمل من أولياء الله تعالى الذين كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وفي ظاهرهم لا في باطنهم، فتصرفوا فيها تصرف المستخلف لا تصرف المالك. ومع هذا فقد ورد أن سليمان (عليه السلام) يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين سنة، وورد أن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) يدخل الجنة حبواً. ول نشك أنهم أخذوا الدنيا بحق وأخرجوها بحق. وقال تعالى لسليمان (عليه السلام) ـ: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[ص: 38/39].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!