الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


343. الموقف الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾[الأعلى: 87/9-11].

الذكرى اسم من التذكر كما هي في قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾[الأنعام: 6/68].

أي بعد التذكر: ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأنعام: 6/68].

وقوله: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾[البقرة: 2/282].

وقد تكون الذكرى مصدر، ولم يجيء مصدر على فعلى غير هذا، والتذكير لا يكون إلاَّ لمن علم شيئاً ونسيه أو غفل عنه. وذلك أنه تعالى أخذ من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم أرواحاً متجسدة في أجساد برزخية نورية وقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾  [الأعراف: 7/172].

فافترقوا فرقتين حينئذٍ فرقة قالت بلى طوعاً بفرح وسرور، وفرقة قالت بلى قَهراً وقسراً حيث كانت مأخوذة مقبوضاً عليها. فبعض الله النبيين مبشرين ومذكرين للفرقة الأولى التي أجابت طوعاً، وهم المقصودون بالذات بالتذكير، فنفعتهم الذكرى، فتذكروا العهد القديم الذي أخذ عليهم بالإقرار بالربوبية و الملك لم ذكرتهم الرسل، وأما التوحيد فهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ومنذرين للفرقة الثانية، فرقة الأشقياء، وهم الذين أجابوا كرهاً فلم تنفعهم الذكرى فلم يتذكرو وإن ذكروا، وإنما عمتهم الرسل بالذكرى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. فإرسال الرسل (عليهم الصلاة و السلام) بالقصد الأول إنما هي للفرقة الأولى السعيدة ليبينوا لهم الطريق التي يسلكون عليها إلى ربهم الذي أقروا بربوبيته أزلاً. وأما الفرقة الفرقة الثانية فإنما تذكيرها بالتبع والعرض لتقوم عليهم الحجّة لا غير، فأمر تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالتذكير إن نفعت وإن لم تنفع، على حد قول:

﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾[النحل: 81]. أي والبرد، إذ الواو قد تحذف مع معطوفها، ولا يصح أن تكون شرطية ، لأنه صلى الله عليه وسلم ما خص بالذكرى سعيداً دون شقيّ ثم أخبر تعالى أن الذكرى وإن عمت السعيد والشقي فلا يذكر إلاَّ من يخشى الله تعالى ويتقيه، وليس إلاَّ المؤمن الذي قال بلى طوعاً ظاهراً وبا طناً، وأما الذين قالوا كرهاً وقهراً لا باطناً بل ظاهراً فقط حيث كانوا مأخوذين مقبوضاً عليهم كالمنافقين، ومن ذلك اليوم كان النفاق،  فإنهم أظهروا خلاف مافي بواطنهم، فهم الأشقى الذي يتجنبها، أي يتجنب الذكرى يوليها جنبه كما هي حالة المعرض عن الشيء ولا يقبل عليه بوجهه فلا يتذكر. وقد حذرهم الله تعالى هذا يوم أخذ العهد والميثاق عليهم فقال: ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾  [الأعراف:7/173].أي خشية أن تقولوا إن كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، ولا يقبل لكمن حينئذٍ هذ العذر. ففي الآية دليل على أن أخذ الميثاق كان بالإقرار بالربوبية والملك والتوحيد، لا على الإقرار بالربوبية فقط. ويؤيد أن «أن» هنا غير شرطية، وعموم الذكرى نفعت أو لم تنفع قوله تعالى:﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾[يونس: 10/25].

يدعو الجميع السعداء والأشقياء ويهدي من يشاء إلى صراط لمستقيم، ول يشاء إلا هداية من تنفعه الذكرى، وأما من يتجنب الذكرى فلا يشاء هدايته وإن عمت الدعوى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!