الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


304. الموقف : الرابع بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الروم: 30/30].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهّودانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة عجماء،  هل تحسّون فيها من جدعاء؟! وإنما أنتم الذين تجدعونها)).

وقال تعالى: في قضية موسى والخضر عليهما السلام : ﴿وَأَمَّ الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَ طُغْيَاناً وَكُفْراً، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾[الكهف: 18/ 80- 81].

قال البخاري في صحيحه : ((طبع يوم طبع كافراً، أي فطر يوم فطر ك فراً)). فاعلم أنَّ الدين لغة الطاعة، والانقياد. وهذا هو المراد بهذه الآية، فإنه تعالى قال للناس، وهم أرواح متعلقة بأجساد برزخيّة: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾[الأعراف: 7/172].

فانقادوا وأطاعوا. وقالوا: «بلى» إقراراً بربوبيتّه لهم وملكه عليهم.

واصطلاحاً: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ماهو خير الذات. وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾[البقرة: 2/132].

وقوله: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[آل عمران: 3/85].

ونحو هذا.

وأمّا الفطرة، فهي فطرتان: فطرة مطلقة، وفطرة مقيدة، فأمَّا الفطرة المطلقة فهي المذكورة في قوله: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[الروم: 30/30].

أي خلقهم عليها، وجعلها فيجبلتهم وفطرتهم، بمعنى خلقتهم. فإذا خرجو إلى الوجود العيني يخرجون عليها. وهي قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾[الأعراف: 7/ 172].

وهذا العهد أخذ على الأرواح قبل وجود الأشباح، فكلّ من خرج من الناس إلى عالم الأشباح، يخرج مفطوراً على هذه الفطرة من الطاعة والانقياد، لقوله: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ﴾[الأنبياء: 21/92، والمؤمنون 23/53].

وإنه ليس أحد يعرف الحق تعالى إلاَّ في حضرة الربوبيّة، حتى العقل الأوّل، وتفرد القديم تعالى بمعرفته نفسه في حضرة الهُويَّة، وهذه الفطرة المطلقة، والدين القيم، أي القائم الثابت، لا تبديل له ولا تغيير فيه، فلا ينقل الأبوان ولدهما عنهما ولا غير الأبوين بنصّ قوله تعالى: ﴿ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[الروم: 30/30].

وهو هذه الفطرة، كما أنه لا تبديل لكلمات الله وهو قوله: ﴿مَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾[ق: 7/29].

﴿وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 7/187، ويوسف 12/21 النحل 16/38 الروم: 30/6 سبا: 34/28 و 36 غافر: 40/57  وا لجاثية: 45/ 26].

والذين لا يعلمون هذا هم الذين يظنون أنهم عرفوا ربوبيته تعالى لهم وجوده بنظرهم وفكرهم، وهم إنما عرفوه بذلك فطرة فطرهم عليها. والفطرة أيضاً بمعنى ما يظهر به الإنسان عند وجوده من التجلّي الإلهي الخاص الذي يكون له عند إيجاده، وهو الذي فسّر به بعضهم الفطرة: فقال: ((إنها الصفة التي يكون عليها كلّ موجود في أول زمان خلقته)).

بمعنى الاسم الذي يتجلّى به الحق على المخلوق عند إيجاده، وهذا الاسم هو حقيقة ذلك الموجود. وبهذه الأسماء الخاصّة والتجلي الخاص تتميز أشخاص النوع الواحد، وأنواع الجنس الواحد. وهذه الفطرة أيضاً لا تتبدّل ولا تتغير. فإنّ قلب الحقائق محال.

وأمَّا الفطرة المقيدة فهي مذكورة في حديث: ((كلّ مولود يولد على الفطرة)) الخ بمعنى أنه لورنس فطر الناس وخلقهم مستعدين متهيئين قابلين للدين الحق «فأل» في الفطرة، في الحديث، للعهد الذهني، أي الفطرة بمعنى القبول لكل تجل، ، والتهيئ لكلّ وارد، وإن اختلفت الأديان بسبب اختلاف النسب الإلهية، بسبب اختلاف الأحوال، بسبب اختلاف الأزمان. وهذه الفطرة تقبل التبديل والتغيير والتعيين والتقييد بعد الإطلاق والسذاجة... ولهذا، كان الأبوان ينقلان ولدهما من الإطلاق والسذاجة إلى التقييد باليهوديّة أو النصرانيذة أو اي نحلة كان عليها الأبوان. فهذه الفطرة كما قلنا تتغير وتتبدّل بنص الحديث الشريف. ومن فسر الفطرة في الحديث بالإسلام من شرّاح الحديث فقد أبعد.

وأمَّا الغلام الذي قتله الخضر (رضي الله عنه) فإنَّه طبع على كافراً، أي فطر على الكفر بالدين الذي كان عليه أبواه، لحكم الاسم الإلهي، الذي تجلّى عليه أوّل إيجاده، كما بيناه قبل. لا أنَّ الغلام طبع يوم طبع كافراً بالفطرة المطلقة والدين القيّم. فإنَّ الفطرة المطلقة لا تبديل لها ولا تغيّر يلحقها. وهي فطرة كلّ إنسان سع يداً كان أو شقياً. ولهذا كان المآل إلى الرحمة العامّة إن شاء الله.  ومتعلّق السعادة والشقاوة الفطرة المقيّدة والدين الإلهي الوضعي. ولذا قال: ﴿فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾[الكهف: 18/80]. إذا كبر وبلغ الحنث، وتعلّقت به الأحكام الشرعية، وكفر بالدين الذي عليه أبواه، فتابعاه لمحّبتهما إياه، ولما كان الغلام لم يبلغ الحنث، ولم تتعلق به الأحكام الشرعية المؤقتة ببلوغ الحنث، كما فسر البخاري به قوله: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً﴾[الكهف: 18/74].

يعني طاهرة، ولم تبلغ الحنث .﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾[الكهف: 18/74].

وهذا التفسير، ردّه بعض شُرَّاح البخاري قائلاً: إنه لو لم يبلغ الحنث لم يقتل بنفس، ولا بغير نفس، ظناً منه أن الشرائع المتقدمة وأفعال الخضر (رضي الله عنه) جارية على مقتضى شرعنا. وهيهات هيهات!! قتل الخضر (عليه السلام) الغلام رحمة به. فإنه قبل الحنث لا تكليف. فلحق الغلام بأبويه في الآخرة. فإنَّ الولد مادام لم يبلغ الحنث محكوم له بحكم أبويه في الظاهر وأحكام الدنيا. وأمَّ في الباطن والدار الآخرة، فالراجح، بل الحق، أنَّ كلَّ من مات قبل الحنث من الأولاد، يكون في الجَنَّة، لحكم الفطرة المطلقة، بدليل الرؤيا التي رآها (صلى الله عليه وسلم) وهي في صحيح البخاري. قال فيها: ((والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم الخليل (عليه السلام)  والصبيان حوله أولاد الناس)) .

فعمَّ وما خصَّ ولد مسلم من ولد مشرك. فكان يقتل الخضر (رضي الله عنه) الغلام رحمة بالغلام، حيث قتله قبل الحكم عليه بالكفر، ورحمة بأبويه، فإنه لو كبر وكفر لربّما تابعاه على الكفر وارتدا عن دينهما. كما كان خرق السفينة رحمة بالملك الغاصب للسفن، فيزيد في عذابه غصب السفينة لو غصبها، ورحمة بأهل السفينة. كما أنَّ إقامة الجدار كان رحمة باليتيمين، ورحمة بأهل الجدار، الذي كانوا ينتفعون به، فاعرف هاذ الموقف، فإنه من نفائس العلم، ولربّما لا نجد هذا التفصيل في كتاب. وهو من أنفاس شيخنا (رضي الله عنه) اللهم أجزه عنّا أفضل ما جزيت معلماً عن متعلم، ومرشداً عن حائر، وهادياً عن ضال وناصحاً عن منصوح، فإنك القادر على لك، المليء به.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!