الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


290. الموقف التسعون بعد المائتين

سألني بعض الإخوان عن معنى قول الشاعر:

رأت قمر السماء فأذكرتني

ليالي وصلها بالرقمتين

كلانا ناظرٌ قمرًا ولكن

 

نظرت بعينها ورأت بعيني

قوله: «رأت» يريد حقيقة الغيبة التي بها هو هو، وإنما أسند الرؤية لحقيقته الغيبيّة دون صورته الشهادية لأن رؤية هذا القمر لا تكون بالأبصار الشهادية، وإنما تكون بالبصائر الغيبيّة. أو يكون الإسناد على طريق التجريد، أو هو من باب رأت عيني وسمعت أذني، فيكون مجازاً مرسلاً.

قوله: «قمر السماء» يعني الحقيقة الكلية المسماة بالقمر، وإنما سميت قمراً لكونها مظهر شمس الأحدية، وهي غيب مطلق، ليس لأحد عن حقيقتها خبر، ولا علم فيها لأحد، ولا أثر. فهذا القمر مظهر لنورها، كما أنَّ القمر المحسوس مظهر لنور الشمس المحسوسة، فيظهر به نورها عند غيبتها عن الأبصار، لأن الحق تعالى ظهر في هذا القمر بذاته، وظهر فيما عداه من المخلوقات بصفاته.

قوله: «فأذكرتني» التفات أو رجوع من الفرق إلى الجمع، لأنه بعد حصول هذه الرؤية للحقيقة، تلوح على الجسم آثارها، وتسري في جزئياته أنوارها، فتعذب منه الموارد، وتظهر عليه منها شواهد، يعني: أذكرتني هذه الرؤية ما كنت عنه غافلاً، ونبّهتي لما كنت عنه ذاهلاً، بسبب انغماسي في الكدورات الشهوانيّة، واشتغالي بما حصل لي من الإدراكات الجسمانية، لأنني لما تعلّقت بالهيكل الأرضي اتحدت به اتحاد العاشق بمعشوقه، فصرت لا أتعقّل سواه، ولا أرى نفسي إلاَّ إيّاه، وما شعرت أني لست من هذ العالم، ولا معلمي من هذه المعالم، فأنا فيه غريب، مالي من نسيب.

قوله: «ليالي وصلها» يريد: أوقات وصل حقيقتي الرائية الجزئية بالحقيقة الكلّية القمريّة المرئية بالاعتبار، يعني: أوقات كان الجزء غير المتعيّن من كله، والفرع غير بائن من أصله، حيث لا تميّز ولا بين، بأثر ولا عين.

قوله: «بالرقمتين»، الرقمتان روضتان ببادية الصمان، كني به ما عن الموطنين القديمين لحقائق العالم. أحد الموطنين: التعيّن الأوّل، وهو تعيّن الإجمال، وتسمّى الحقائق فيه، شؤوناً جمع شأن، أي أمر ذاتي، وثاني الموطنين: التعيّن الثاني. وتسمّى الحقائق فيه أعياناً ثابتة، أي غير منفيّة، فالوجود الحقّ موطن الحقائق في هاتين المرتبتين. وليس لحقائق الممكنات وجود في هذين المرتبتين، حتى يكون الحقّ محلاً للمسمّى غير أو سوى، تعالى عن ذلك، ولا تعيّن خارجي، وإلى هذين الموطنين حنين العارفين، وعليهما أنين المكاشفين. يقول قائلهم:

أنا في الغربة أبكي

مابكت عين غريب

لم أكن يوم خروجي

 

عن مكاني بمصيب

عجباً لي ولتركي

وطناً فيه حبيب

قوله: «كلانا ناظر قمراً» ضمير التثنية عائد على الحقيقة الرائية و المرئية، لأن الحقيقة الرائية الجزئية تنظر الحقيقة الكلية المسماة قمراً قمراً، وهوطه. والحقيقة الكلية تنظر نفسها في مظاهرها وتعيناتها، التي هي بمنزلة ا لمرايا له قمراً، كما هي كذلك، لأن كل شيء وهو ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه هو مظهر لهذ القمر، يظهر فيه بكماله من غير تبعيض ولا تجزئة ولا تعديد.

قوله: «نظرت بعينها»، يعني: أن النظرة للحقيقة المسماة قمراً لا يكون إلاَّ بعينها، من حيث أنَّه لا بصر لها إلاَّ بصرها، ولا سمع له إلاَّ سمعها، وكذ سائر الصفات، فهي لا يبصرها من يبصرها إلاَّ ببصرها. وإليه يشير القائل:

أعارته طرفاً رآها به

 

فكان البصير لها طرفه

 وإن أخطأ في قوله: «أعارته» فإنه بحكم الأصالة لا العارية، فهو مصيب في قوله: «فكان البصير لها طرفها»، وإليه يشير حديث المتقرب بالنوافل «حتى أكون بصره الذي يبصر به» الحديث. وإليه يشير ما ورد في الخبر أنه (صلى الله عليه وسلم) سئل هل رأيت ربك؟! فقال: «نور أَنَّى أراه» فإنه (صلى الله عليه وسلم) عرف من حال السائل أنه لا يعرف من الرؤية إلاَّ الرؤية المعروفة عند العامّة، المقيدة بالرأس، فأجابه أنه ما رآه، يعني بالعين التي لا يعرف السائل الرؤية إلاَّ بها. وأخبره أن نور هذه العين المعروفة يقصر عن رؤية الربّ تعالى . وسأله عليه الصلاة والسلام آخر: هل رأيت ربك؟! فقال: «نعم، رأيته» لأنه عليه الصلاة والسلام علم من أحوال السائل أنه لا يريد الرؤية المعروفة عند العامة، لأن السائل كان عارفاً بالله تعالى ـ. وبهذا يحصل الجمع بين الخبرين، يقول الشيخ الأكبر:

وما يرى الله إلا َّ الله،

فاعتبروا قولي ليعلم منحاه ومعناه.

قوله: «ورأت بعيني» يعني: أن هذه الحقيقة القمريّة، ترى نفسها بأعينه مظاهرها في مظاهرها. فهي الرؤية والرائي والمرئي، لأن العالم صورتها، ، وهي هويته، والصورة عين الهويّة، فإنَّ هويتها المطلقة، إذا ظهرت بذاتها، مقيّدة بأحواله فإنها باعتبار تقيدها مظهر لنفسها باعتبار إطلاقها. فهذه التقيدات والتعينات يغاير بعضها بعضاً من حيث خصوصياتها. والكلّ متحد بالكلّ من حيث الحقيقة الوجودية. والوجود المطلق لا يغاير الكلّ ولا يغاير البعض، لكن كلّية الكلّ وجزئية الجزء نسباً ذاتية له، لا تنحصر في الكلّ، ولا في الجزء، مع كونه فيهما عينهما. فسبحان من يرى نفسه بنفسه في أعيان خلقه، ويكلم نفسه بنفسه من أعيان خلقه. لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم.

وإنما قال: «نظرت بعينها ورأت بعيني» فجاء بالنظر في حقّه، وبالرؤية في حقّها لأن حقيقة النظر هو تقليب الحدقة نحو الشيء، طلباً لرؤيته، مع تأمّل بخلاف الرؤية فإنها مجرد إدراك، فنزهها عمّا تقتضيه لفظة النظر، وهذا غاية الأدب، والله أعلم وأحكم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!