الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


289. الموقف : التاسع والثمانون بعد المائتين

سألني بعض الإخوان عن قول سيدنا في باب الولاية الملكية: «ولا ينبغي أن يكون الإله إلاّ من هذه أسماؤه، مضاف إليها مشيئته وإرادته، المقيدتان بلو، وهو حرف امتناع، فيه سر خفي لأهل العلم بالله» السرُّ الذي أشار إليه (رضي الله عنه) ـ هو أنه تعالى ما ذكر أنَّ له مشيئة وإرادة و اختياراً إلاَّ من أجل من يقول: إنه تعالى علّة أو طبيعة، لا يفع لما يفعل بمشيئة وإرادة و اختيار. إذ الفاعل عند الحكماء وبعض المتكلّمين أنواع: فاعل بالعلّية، وهو الذي يكون منه الفعل دون الترك، وفاعل بالطبيعة، وهو الذي يتوقّف فعله على وجود شرط وانتفاء مانع؛ وفاعل بالمشيئة والإرادة والاختيار. فأثبت له تعالى المشيئة والإرادة المقيدتين بـ «لو» الامتناعية، وهي كما قيل: حرف مشؤوم، لا يكون ما بعدها. وإن كانت لا تدخل في اللسان إلاَّ على ممكن.

قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾[السجدة: 32/13]. فما شاء، ولا آتى كلّ نفس هداها.

وقال: ﴿ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[النحل: 16/9]. فما شاء، ولا هدى الجميع.

وقال: ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾[الأنعام: 6/112].فم شاء، وفعلوه.

قال: ﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء: 21/17]. فما أراد ولا اتَّخذ لهوًا.

والمراد من إثبات هذا أنه تعالى غير مكره ولا مجبور لغيره، وهو كذلك. فإنه يفع لما شاء، وشاء ما علم، وعلم المعلوم على ما هو عليه، فهو يوجده على ذلك، فما ترك سبق العلم بالرتبة لـ «لو» شاء و«لو أراد» محلاً. فالمشيئة والإرادة واحدة. قال: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾[ق: 50/ 29].

وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾[غافر: 40/6].

وقال: ﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾[السجدة: 32/12].

فنفى عن نفسه: لو شاء، لو أراد، وأثبت عين ما شاء،  من غير تغيير في ذلك، والوجود محصور في واجب بذاته، وواجب بغيره. ولما انتفى الإمكان انتفى الاختيار. فليس عنده تعالى تردّد بين شيئين، الذي هو معنى الاختيار في اللسان، والذي صحّح هذا عند النظّار من المتكلمين هو حقيقة الممكن. فإنه أي الممكن ما يصحّ وجوده وعدمه على السواء، مع ذكره تعالى من المشيئة والإرادة المقرونتين بـ «لو» ومن الاختيار، وما تفطّنو لما وراء ذلك. وهذه المسألة من الأسرار التي لا تذاع إلاَّ لمن غطّى نور إيمانه نور عقله، ومحق التسليم ما عرفه من درسه ونقله. وكان كما قيل:

السر عندي في بيت له غلق

 

قد ضاع مفتاحه والباب مردوم

لأنه إذا سمعه منه عالم فقيه كفّره وزندقه، وقال: إنه كذّب القرآن ونفى عن الله تعالى ما أثبت لنفسه، فتشوّش حاله وشوّش غيره، وما كلّ ما يعلم يقال، ول كل عقل يجول في هذا المقال.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!