الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


270. الموقف السبعون بعد المائتين

قال تعالى: حكاية عن يوسف أنه قال لأبيه (عليه السلام) : ﴿وَقَالَ يَ أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾[يوسف: 12/100].

اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان وجعل له في الدار الدنيا حالتين حالة يقظة وحالة نوم، وجعل له في كلّ حالة إدراكاً مخصوصاً، أعني عموم الإنسان. وأمَّا الخاصة كالأنبياء والأولياء فإنهم يدركون في اليقظة مالا يدركه العامة إلاَّ في النوم. فحالة اليقظة يسمّى إدراكاً إحساساً، ومدركاتها محسوسات. وحالة النوم يسمى إدراكها تخيلاً ومدركاتها متخيلات. والمدرك من الإنسان في الحالتين واحد، وهو الروح المسمّى عند الحكماء بالنفس الناطقة، يدرك في حالة اليقظة الجزئيات بآلاته الجسمانية، ويدركها في حالة النوم بآلاته الخيالية، تكون للصورة التي يلبسها حالة إدراكه النومي، فإنه قد لا يدرك شيئاً في بعض نومه.

وليس عالم الخيال بعالم مستقل بذاته، زائد على عالم المعاني، وعالم الأجسام المحسوسات، وإنما هو برزخ بين عالم المعاني التي لا صورة لها من ذاتها ول لها مادة، وبين عالم الأجسام المادية، فيجسّد المعاني في الصورة المادية كالعلم، يجسّده في صورة اللبن، ونحو هذا، وبلطف الأجسام المادية فتصير لها صور روحانية في الخيال الإنساني، وهو معقول أبداً، فإن حقيقة البرزخ الشيء المعقول الفاصل بين الشيئين، ل يكون عينهما ولا غيرهما، وفيه قوّة كلّ واحد منهما. ولولا البرزخ لاختلطت الحقائق، والتبست الطرائق، مثل الخط الهندسي الفاصل بين الظلّ والشمس، لا هو من الظل ولا من الشمس ولا غيرهما في الحسّ، فإنَّ الحس لا يدركه سوى الظل والشمس، وهو نوعان: متصل بالإنسان، ومنفصل عنه، وكلامنا في المتصل، ولو أدرك المدرك بالحسّ خلاف ما أدركه بالتخيّل فلا يناقضه، فإن الخيال لوسعه يجمع الضدّين. انظر قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ﴾[الأنفال: 8/43].مع كونهم كثيرين.

وقال: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾[الأنفال: 8/44].

وهذه رؤية الخيال في الحسّ، فلو كان إدراك التخيّل يناقض إدراك الإحساس مناقضة حقيقية للزم خطأ أحد الإدراكين ويكون كذباً، وذلك محال. ولما كان الإدراك الخيالي يقبل وجوهاً من التأويل، ويحتمل عدّة من الاعتبارات، كان غير متعين لوجه واحد، مادام لم يخرج إلى الحسّ. فإذا خرج إلى الحسّ تعين لأحد محتملاته. وقد يقع هذا حتى للأنبياء (عليه السلام) أحياناً ففي صحيح البخاري، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه: ((كنت أريت داراً هجرتكم ذات نخل بين لابتين، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)) .

بخلاف الإدراك الحسّي فإنما له وجه واحد، دون احتمال لهذا قال: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾[يوسف: 12/100].

أي خرج تأويل رؤياي محسوساً ثابتاً على الوجه التي أوّلتها يا أبت عليه، وقد كانت قبل احتملت هذا الوجه وغيره من التأويلات فظهر مآله حسّاً، إذ التأويل من المآل. ولكلّ حق أي محسوس حقيقة فإذا ذهبت صورته الحسّية، وهي حقّه بقيت حقيقته لا تزول، وهي حقيقته العقلية التي يضبطها الحد والرسم. وصورته الخيالية، وصورته الروحانية لا تحدّ ولا ترسم. وقد كان يعقوب عبّر رؤيا يوسف (عليه السلام) كما ظهرت في الحسّ، وعرّف أن يوسف لابدَّ أن يجتبيه ربّه بالنبوة والملك، ويصير على مرتبة تقتضي خضوع إخوته وذلّتهم بين يديه، ولذا قال: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 7/ 62، ويوسف 12/86].

يعني أنه لابدَّ من اجتماعه بيوسف، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾[يوسف: 12/68].

ِفما كان ليعقوب شك في الاجتماع بيوسف عليهما السلام ولكن شدّة الحبّ وحرقة الفراق صيّرته إلى ما حكي عنه. وإخوة يوسف عليهم ا لسلام جميعاً قيل هم أنبياء، وقيل ليسوا بأنبياء لأن ما صدر عنهم، ممّا قصَّ الله لا يليق بمنصب النبوة الأسمى، وما ورد نص صريح في ذلك من كتاب أو خبر نبوي، وظواهر الكتاب تعطي نبوتهم، وما قالوا وفعلوا كان مباحاً لهم، فليس كلُّ ممنوع في الشرع المحمدي كان ممنوعاً في الشرائع السالفة.

﴿كُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾[المائدة: 5/48].

وأين تزويج الأخت من أخيها من شرعنا؟! وأين الجمع بين الأختين وتزويج الابن زوجة أبيه بعده؟ وأين قتل الإنسان نفسه إذا أذنب؟ وأين قرض النجاسة من البدن بالمقراض؟ وأين استرقاق السارق بسرقه؟! إلى غير هذا... فإن أولاد يعقوب عليه وعليهم السلام كانت لهم من أبيهم وجهة وعطف وحنو والتفات، فلما نشأ يوسف (عليه السلام) وعلم أين مكانته عند الله تعالى ورفعته على إخوته صارت وجهته كلّه إليه، وحنوه بالخصوص عليه، فغاروا لذلك، وحقّ لهم أن يغاروا على وجهة والد نبي قالوا: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾[يوسف: 12/8].

ففعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا ممّا هو مباح لهم، حتى القتل الذي هموا به!! وهذا شهاب الدين بن حجر من أئمة الشافعية أفتى، بأن من كانت له وظيفة بوجه صحيح، وسعى غيره في أخذها منه فله دفعة عنها ولو أدّى إلى قتله!! فما أخرجهم عن مرتبة النبوّة ونفاها عنهم إلاَّ من قاس الشرائع على شريعتنا، وهيهات!!.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!