الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


27. الموقف السابع والعشرون

قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم: 53/ 43].

كنت متوجهاً أذكر الله في خلوتي، فأخذني الحق تعالى عن العالم وعن نفسي، فسمعت قائلاً يقول: إنَّ الله تعالى ما أضحكنا وأبكانا في الدنيا، إلاَّ ليضحك لنا في الآخرة. فلما رجعت إلى نفسي علمت أنَّ هذا تسلية وبشارة، فإن السالك السائر تتلون أحواله دائماً، فتارة قبض، وتارة بسط، وتارة ضحك وتارة بكاء، والموجب لذلك مشاهدتان:

الأولى: مشاهدة مامن الله تعالى إليه من الستر عليه والإحسان إليه، وأنه عبد الله تعالى وأنه سائر إليه ولحضرة قربه، ولحسن ظنه بربّه بأنه سيرحمه ويرفع حجبه ويعرِّفه بنفسه ويجلسه مجلس الرضى مع الأحباب المخصوصين بالقرب والكرامة، فهذه مشاهدة توجب الفرح والضحك والانبساط.

الثانية: مشاهدة ما منه إلى الله تعالى من سوء الأدب، والتقصير في الأوامر، وعدم شكر النعم، مع التفكير في حالته الراهنة، وبعده من حضرة الأحباب، وتراكم الحجب، وغلبة النفس والهوى، واستيلاء حبّ الدنيا والشهوات على قلبه... فمشاهدة هذه الأمور توجب القبض والحزن والبكاء بل توجب إزهاق الروح لمن كانت له همة سنيّة، ونفس إنسانية.

فالسالك لا يخلو من هاتين الحالتين أبداً، ولا تظهر له من الحق تعالى ـ علامة الرضى وهو الضحك الخالص، مادام في هاتين المشاهدتين. فإذا أراد الله تعالى رحمته أظهر له علامة الرضى برفع الحجاب، وأدناه من حضرة الأحباب وعرَّفه بنفسه، وخلع عليه من خلع الكرامة، وأنعم عليه بأنواع النعم، لأن من عادة الملك إذ ضحك لأحد فعل به أنواعاً من الكرامة. ويكون المراد بقوله «في الدنيا» الحالة القربى من السالك وهي بدايته في السلوك والسير، إذ الدنيا مأخوذة من الدنّو، وهو القرب لكونها أقرب إلينا من الآخرة، ويكون المراد بالآخرة، حالة السالك المتوجه حين يرحمه الله تعالى بحلول رضوانه عليه، وكشف حجابه، لأنها آخرة بالنسبة إلى حالته الأولى. وما سميت الآخرة آخرة إلاَّ لتأخرها بالنسبة إلى الدنيا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!