الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


254. الموقف الرابع والخمسون بعد المائتين

﴿ وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [البقرة: 2/163].

قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الأنبياء: 21/108].

قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 18/110].

قال: ﴿أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ﴾[النحل: 16/2].

ونحو هذه من الآيات، خاطب بها تعالى كلّ من بلغة القرآن الكريم والكلام القديم من يهودي ونصراني ومجوسي ووثني وصنمي ومنوي وغيرهم من الأجناس والأصناف المختلفي العقائد والمقالات في الحق تعالى، أخبرهم أن إلههم واحد، وإن اختلفت مذاهبهم وعقائدهم فيه، فهو واحد العين، ولا يلزم من اختلافهم فيه اختلاف في عينه وحقيقته، فإنها كالأسماء له، ولا يلزم من تعدّد الأسماء تعدد في المسمّى. إن له تعالى أسماء في كلّ لغة من اللغات التي لا تحصى كثيرةً وليس ذلك بقادح في وحدة عينه، ففي الآيات المتقدّمة إشارة إلى ما تقوله الطائفة العلية، طائفة الصوفية، من وحدة الوجود، وأنه تعالى عين كل معبود، وأنَّ كلّ عابد إنَّما عبد الحق من وجه، ببرهان هذه الآيات وبقوله: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[الإسراء : 17/ 23].

حكم تعالى أنه لا يعبد إلاَّ إياه، فمحال أن يعبد غيره، لأن وقوع خلاف قضائه محال. وإنما هلك من هلك، من جهة مخالفته لما جاءت به رسل الله من أوامره ونواهيه، لا أنّه كفر بالله من كلّ وجه، فهو تعالى عين كلّ معقول متخيّل ومحسوس بوجوده الواحد الذي لا يتعدّد ولا يتبعّض، عين النقيضين والضدين والخلافين والمثلين، وليس في الوجود إلاَّ هذه، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وليس في العالم إلاَّ هذه، فلا تقيده المظاهر ولا تحصره المقالات والاعتقادات من الأوائل والأواخر، فهو كما أخبر في الصحيح: «عند ظنّ كل معتقد، ولسان كلّ قائل»، والظن والقول خلقه، فتصّوره في تصّور كلّ متصور عين وجوده، ووجوده في تصور من تصوره ل يزول بزوال تصور من تصوره إلى تصور آخر، بل يكون له وجود في ذلك التصور الآخر. فمن اعتقده وتصوره مقيداً فهو كذلك، أو مطلقاً فكذلك، أو جوهر فكذلك، أو عرضاً فكذلك، أو منزهاً فكذلك، أو مشبهاً فكذلك، أو معنا فكذلك، أو في السماء أو في الأرض فكذلك، أو غير ذلك، ممّا لا يكاد ينحصر من الاعتقادات والمقالات، ولهذا قال بعضهم: كل م يخطر ببالك فالله بخلاف ذلك. فهذه القولة لها وقع عظيم في باب الحقائق، فإن صدرت من عارف فهو أهل لها، وإن صدرت من غير عارف فقد يجري الله بعض الحقائق على ألسنة غير أهلها فيعرفها أهلها، والمتكلمون القائلون بالتنزيه المطلق العقلي غير الشرعي يتداولون هذه المقالة بينهم، لظنّهم أنها دليل لهم على تنزيههم المطلق، وليس الأمر كما توهموا، بل معناها عدم حصر الحق تعالى في قولة قائل، واعتقاد معتقد، وأنه تعالى كما اعتقده كلّ معتقد من وجه، كما قال كلّ قائل من وجه. فكل ما يخطر ببالك فالحق تعالى، من حيث الذات والصفات فالله كذلك، وبخلاف ذلك، فليس مراد القائل إنه ليس كما خطر ببالك بل مراده: أنه كما خطر ببالك، وبخلاف ذلك عند مخالفك، أي غير مقيذد بما خطر ببالك، بمعنى اعتقادك، ولا منحصر في مقالتك. فإن هذا القائل حكم أنه تعالى بخلاف ما خطر ببالك، عند مخالفك في عقدك وقولك، وهو كما خطر ببالك، كما صحّ هذا صحّ هذا. فالمراد من ا لخلاف كلّ مناف، سواء كان من تنافي الضدّين والنقيضين، أو الخلافين، أو المثلين فإن المثلين متنافيان عند الأصوليين. والحاصل: إن خطر ببالك واعتقادك كذلك، وبخلاف ذلك تعالى، كما قال أهل السنة، فهو كذلك بخلاف ذلك، وإن خطر ببالك واعتقادك أنه تعالى كما قالت واعتقدت جميع الفرق الإسلامية فهو كذلك وبخلاف ذلك. وإن خطر ببالك أنه تعالى كما قالت واعتقدت جميع الطوائف من إسلام ونصارى، ويهود ومجوس، ومشركين وغيرهم فهو كذلك، وبخلاف ذلك. وإن خطر ببالك واعتقادك أنه كما يقول العارفون المحقّقون من الأنبياء والأولياء والملائكة فهو كذلك، وبخلاف ذلك، فم عبده أحد من خلقه من كلّ وجه، ولا كفر به أحد من كلّ وجه، ولا عرفه أحد من خلقه من كلّ وجه، ولا جهله أحد من كلّ وجه. قال الذين هم من أعلم الخلق بالله تعالى: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 2/ 32].

فهو المعبود لكلّ مخلوق من وجه، المعروف لكل مخلوق من وجه، المجهول لكل مخلوق من وجه، فما خلق الخلق إلاَّ ليعرفوه فيعبدوه، فلابدَّ أن يعرفوه من وجه، فيعبدوه من ذلك الوجه، فلا خطأ في العالم إلاَّ بالنسبة، ومع هذا من خالف ما جاءت به الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام هلك ولابدَّ، ومن وافقهم نجا ولابدّ.

﴿وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 2/247].

وسع اعتقادات جميع مخلوقاته كما وسعتهم رحمته، وسع كلّ شيء رحمة وعلماً، عزيز منيع، أن يعرفه أحد من مخلوقاته كما يعرف نفسه، أو يعبده عابد كم تستحق عظمته وجلاله، لطيف ظهر بما به بطن، وبطن بما به ظهر، لا إله إلاَّ هو، حيرة الحيرات، لا يحيط هو تعالى بذاته. فكيف يحيط به عجز المخلوقات؟!..


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!