الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


240. الموقف الأربعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ﴾[الفاتحة:1/1].

اعلم أن القائل (بسم الله) في أول أفعاله، لا يخلو إما أن يكون سنّيّاً فالباء في حقه معناها الاستعانة، قال بهذا المعنى أو خلافه لجهله بحقائق الأمور وموارد المعنى، فإنه يرى الفعل لله تعالى من حيث الخلق وله من حيث الكسب، إن كان أشعرياً، ومن حيث الجزء الاختياري إن كان ماتريديا، فله دخل في الفعل ولابدَّ، ويستعين بالله تعالى عليه حيث أمر تعالى بذلك، قال تعالى: ﴿اسْتَعِينُو بِاللّهِ﴾[الأعراف: 7/128].

وقال: ﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 1/ 5].

وفي الصحيح: «لا حول ولا قوة إلاَّ بالله».

وإن كان عارفاً بالله تعالى ، فالباء في حقه بمعنى من، فإنه ل يشهد له فعلاً، وإنما يشهد صدور الأفعال من الله الوجود الحق المقوّم لكل صورة تظهر الأفعال عنها بادئ الرأي، فيرى نفسه وكلُّ مخلوق آلات يفعل الله بها ما يشاء، وأقلاماً يحركها فيما يريد، ويقدر المتعلق مما يناسب الفعل الذي جعلت البسملة مبد له، فإذا سألنا أجنبي قلنا: تقديره: خلق الشيء الفلاني صادر من الله. فإذا قدّرناه لأهل طريقنا قلنا مثلاً: التلاوة صادرة من الله أو الذكر أو الصلاة أو غير ذلك، فإن تلاوتنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة له تعالى، وكل فعل من أفعالنا له اسم يخصّه من أسماء الحق تعالى التي لا نهاية لها، وأنَّ الحكمة في تشريع التسمية في أوّل كلّ فعل مباح أو مشروع هي إظهار التبرئة بالقول من دعوى الفعل للإنسان، كم هو في نفس الأمر. فإذا كان الفعل غير مشروع ولا مباح، لم تشرع التسمية أدباً من نسبة صدور ما عليه اعتراض من الشارع منه تعالى ـ، هذا حظ العارف.

فإن كان محققاً فهو فوق العارف فإنه يزيد بمراعاة الأدب. فإذا كان الفعل عليه اعتراض من الشارع ولو في الظاهر، فإنه ينسبه لنفسه كالمعتزلي ويصير قدرياً في ظاهر قوله، دون باطنه واعتقاده كما قال: ﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾[الكهف: 79].(يعني السفينة).

وقال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء: 26/ 80].

وهذا النوع من الاعتزال عين الكمال.

وأمَّا أن يكون (أعني القائل: بسم الله) معتزلياً. فالباء في حقه معناها الملابسة،  لا أثر لمدخولها في الفعل، وكذا قال صاحب الكشاف . وإن قال معناه خلاف هذا فهو مكابر لأنه يرى أنه خالق الأفعال الاختيارية. ولهذا عنه ترتب الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، فباء اسم الله عنده للمصاحبة والملابسة،  كما في قولهم: دخلت عليه بثياب السفر، فإن المعتزلي يعتقد أن الله تعالى أعطاه القدرة على أفعاله الاختيارية وفوَّض إليه بعد ذلك إنه عمل صالحاً فلنفسه، وإن أساء فعليها، فهو هالك، وأهلك منه من قال: إن القدرة والفعل له معاً كمدعي الربوبية من الهالكين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!