234. الموقف الرابع والثلاثون بعد المائتين
رأيت كأنني دخلت مسجداً للصلاة فيه فكلمني إنسان وجاوزني فتبعته وقلت له: «إنَّك كلَّمتني فما قلت لك؟! أتقول الوجود غير الموجود؟ فقلت الوجود عند الطائفة العلية حقيقة واحدة ذات لا صفة، لا تتجزأ ولا تتبعض ولا تتعدد، وتعدد الموجودات لا يؤثر فيه تعداد لأنها نسبة وإضافاته وأسماؤه. وليس هو الحصول ول الثبوت ولا التحقيق كما هو عند المتكلمين. والغيران عند المتكلمين أمران وجوديان، بمعنى أن كل واحد من الغيرين له وجود مستقل بنفسه. وعند الطائفة العلية: الغيرية لفظية مجازية، لا حقيقة لها، ولا وجود إلاَّ في اللفظ. والموجود اسم مفعول هو الذي وقع عليه الوجود. فلا يجوز إطلاق لفظة موجود على الحق تعالى إلاَّ لضرورة تعليم ونحوه. وإذا قلنا الوجود ذات لا يقبل التعدُّد، فقولنا في المحدث موجود معناه له نسبة إلى الوجود، أو إضافة أو نحو ذلك. فالموجودات ما استفادت الوجود من الوجود الحق تعالى وإنما استفادت المظهريّة للوجود الحق، بمعنى أنها محال لظهوره. وهو الظاهر بأحوالها ونعوتها. فوحدة الموجودات حقيقة لوحدة العين. وهو الوجود الذات الحق. وتعددها مجاز لأنها ما تعددت إلاَّ بتعينات، وتميّزت بتميزات ونسب عدميّات. فهو الظاهر، وهو الصور، بحسب ما يعطيه استعداد كل عين ممكنة، فيظهر بذلك الاستعداد. ولما ظهر الوجود الحق منعوتاً بنعوت المحدثات الممكنات احتجب عن البصائر والأبصار، فظن الظانون وتوهم المتوهمون أن الوجود الذي ظهرت به هذه الصور في المدارك البشرية، وقامت به هذه النعوت و الصفات هو وجود حادث خلقه الله تعالى ـ للممكنات. وهو وهم باطل. لأنه لو كان فإمَّا أن يكون جوهراً أو عرضاً، ولا جائز أن يكون جوهراً أو عرضاً، ولا جائز أن يكون جوهراً ولا عرضاً. وقد تقدم برهان ذلك في أثناء هذه المواقف، فالموجودات كلها ليست إلاَّ تجريدات، جرّدها الوجود الحق في نفسه من نفسه لنفسه. فالوجود المنسوب إليها وجوده، وليس الوجود بصفة للموجود كالبياض والسواد مثلاً فيكون غيرا زائداً، كما أن العدم ليس هو بشيء زائد على المعدوم، فيكون غيرا. وإنما هو نسبة وإضافة لهما ولم نتّعرض لمذاهب المتكلمين والفلاسفة في غيرية الوجود وزيادته أو عدمها، لأنهم وإن اختلفوا في عينيته وغيريته فهم متّفقون على أن الموجودات موجودة في نفس الأمر، كما هي في المدارك البشرية. إمَّا بوجود حادث عند المتكلمين، وإما بالوجود القديم عند بعض الفلاسفة، وليس هذ بمذهب الطائفة العلية، فإنَّ الموجودات عندهم لا وجود لها إلاَّ في المدارك، لا في نفس الأمر، وإنما الوجود له تعالى ـ، والموجودات نسبة واعتباراته وتعيناته وظهوراته، وكلها أمور عدميّة ظهرت في المدارك البشرية للحجاب الذي وصفت به، وهو الجهل. والوجود الذي نسبت إليه الموجودات وجود خيالي، فليس هو عند التحقق عينه ولا غيرها. كما أنَّه ليس عين الحق تعالى ولا غيره. فليس الوجود الحقيقي إلاَّ له تعالى . والعالم كله أعلاه وأسفله له الوجود الخيالي المجازي.