الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


231. الموقف الواحد والثلاثون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 2/ 264]، و[التوبة: 9/37].الظالمين.

وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة: 2/ 6].

وقال: ﴿أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾[الأنعام: 6/ 53].

وقال: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾[هود: 11/3].

وقال: ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾[النمل: 27/ 81]. [الروم: 30/ 53].

وقال: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَ وَأَهْلَهَا﴾[الفتح: 48/ 26].

في هذه الآيات ونحوها إشارات إلى ما يقوله القوم (رضي الله عنه) من الاستعداد الثابت للممكنات، حال عدمها، فهي لا تجري إلاَّ إليه، ولا تمشي إلاَّ عليه، بعد إيجادها العيني قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة: 2/ 6].الخ.. الآية. أي الذين كفروا باستعدادهم لا يمكن إيمانهم بعد إيجادهم. بمعنى أنَّ المرجح ـ تعالى لا يرجح ولا يريد إلاَّ كفرهم، لما علمه منهم . ووقوع خلاف المعلوم محال. ولا يخرجهم استعدادهم عن إمكان إيمانهم بالنظر إلى حقيقة الممكن. فإنه ما يصح وجوده وعدمه. ولكن إيمانهم غير ممكن.

بالنظر إلى جهة أخرى، لا يقال: إنما امتنع إيمانهم، لما خطه القلم الأعلى في اللوح المحفوظ، لأنا نقول: ومن أي حضرة استمد القلم ما كتب في اللوح؟! فمرادنا بحضرة الاستعداد الحضرة التي استمد القلم منها ما كتب، وهي حضرة العلم بالمعلومات واستعداداتها، وأحوالها التي تكون عليها إذا وجدت.

وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة: 5/ 51]. [الأنعام: 6/144]، و[القصص: 28/ 50].

ليس المراد أنه لا يحبُّ هدايتهم ولا يرضاها، بل لا يرضى لعباده الكفر. ولكنه لما علم استعداداتهم وما سيكونون عليه من عدم قبولهم للهداية، أراد بهم م علمه منهم، فلم يخلق لهم الهداية، وقوله: ﴿أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾[الأنعام: 6/ 53].

جواب للكفار القائلين: ﴿أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ﴾  [الأنعام: 6/ 53].

فما علل اختصاص هؤلاء الضعفة بالإيمان إلاَّ بكونه تعالى تعلّق علمه القديم بأنهم من الشاكرين، يريد أنه علمهم على هذا فأعطاهم إياه، وأوجده لهم لاستحقاقهم إياه، باستعدادهم. وقوله: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾[الفتح: 48/ 26].ولا أحقيّة ول أهلية قبل الإسلام، وإنما أحقيتهم وأهليتهم كانت باستعدادهم الذي منه يستمدون وعليه يعتمدون.

وقوله: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾[هود: 11/3].

أي يعطي تعالى كل صاحب فضل فضله، بمعنى يوجده له. أخبر تعالى أن الفضل ثابت لصاحب الفضل، قبل إعطائه تعالى له. ثم هو تعالى يعطيه له. أي يوجده. فللممكن الاستعداد، وللحق تعالى الإيجاد.

وقوله: ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ [النمل: 81].

يعني لا يبصر ولا يسمع دعاك، ويهتدي بهداك إلاَّ من كان له استعداد أزلي أنه يؤمن بآياتنا، عند إيجاده وإرسال الرسل إليه.

واعلم أن كل ما تقوله الطائفة العلية (رضي الله عنه) له دليل من الكتاب والسنة، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، لأن طريقتهم مؤسسة على الكتاب والسّنة. غير أن من علومهم أموراً وجدانية، لا يمكن أن يقام عليها دليل، ولا تحدُّ بحد، وإن الوجدانيات المحسوسة لا تحدُّ، فكيف بهذه؟ على أن كلامهم في العلوم الخاصة بهم إنما يكون مع أبناء جنسهم، وأهل جلدتهم، المؤمنين بهم وبكلامهم. فلا يطالبونهم بدليل. وعدم الدليل لا يوجب عدم المدلول. فقد اتفق أهل النظر على أن عدم الدليل ل يوجب عدم المدلول. إذ العالم عندهم دليل على وجود موجده تعالى، واتصافه بالصفات الأربعة،  التي لا يمكن لفاعل أن يفعل إلاَّ بعد الاتصاف بها. وقد كان تعالى ولا عالم. وذلك أن القوم تعالى لم استقامت ظواهرهم وبواطنهم على الطاعات، واتباع السنة قولاً وعملاً وحالاً قوي نور إيمانهم، فتثوّروا (أي بحثوا) قاموس القرآن والسنّة إذ ذلك بستانهم الذي فيه يتنزهون، وفي أرجائه يترددّون، ظهرت لهم منها أشياء كانت مندمجة مستورة عن العموم، وماهي بخارجة عن الأصل الذيه والكتاب والسنة، ولا زائدة عليه، حتى يقال: الحقيقة غير الشريعة، كلاّ وحاشا، وإنما ظهرت أسرار الكتاب والسّنة وأشارتهما ظهور السمن من اللبن، عندما خضّ وحرك، فهل يقال السمن ليس من اللبن؟! وإنما كان السمن باطناً في اللبن فظهر منه عندما خضّ، بصورة غير الصورة المعروفة من اللبن، وهو هو. فاقبل يا أخي ما جاءك من كلام أهل الله تعالى (أعني الصادقين) لا كلام كلّ ناعق. فم فهمته على وجهه فتلك الغنيمة الباردة، وما اعتاض عنك فهمه فكله إلى أهله، كما تفعل في متشابه الكتاب والسنة مع التصديق به، إلى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، بدلالتك على من يفكّ لك معّماه، ويفصح لك عن معناه.

ولقد رأيت في الرؤيا رجلاً تعلّق بي وقال: شممت منك رائحة حيّ ليلى، فقلت له: ما أنا منهم، ولكني من المؤمنين بوجودهم، المصدقين بكلامهم، فقال لي: كيف السبيل إليه؟ فقلت له: إذا أرادك خلق فيك الطالبية، وفي مطلوبك المطلوبية، كأني أردت بهذا أن الحق تعالى ، يخلق في المطلوب الذي هو الشيخ، بهمّة المريد وقوّة صدقه، ما يطلبه المريد منه. وما تذكرت هذه الرؤيا إلاَّ سبقتني دموعي. فإياك ي أخي أن يصدّك صادُ أو يعارضك معارض عن محبة هذه الطائفة العليّة، و التصديق لكلامهم. فإن محبتهم عنوان السعادة والإعراض عنهم عنوان الشقاوة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!