الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


230. الموقف الثلاثون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾[طه: 20/ 111].

وجوه الحق تعالى هي أسماؤه ونسبه، سمّيت نسباً من حيث إنها ل موجودة ولا معدومة، وسميت أسماء لأنها تدل عليه دلالة الأسماء على مسمّياتها، وإن كان لا يخلو اسم منها عن رائحة الوصفية، لأنه تعالى إنما يذكر بها على وجه الثناء، والثناء لا يكون بالاسم العلم المجرد عن الوصفية. وسميت وجوهاً من حيث أن ظهور الحق تعالى لمن ظهر له لا يكون إلاَّ بها. ولذا سمي العضو الذي هو أوّل ما يظهر من الإنسان لمقابله وجهاً، لأنه يظهر به أولاً، ووجوه الحق تعالى أعني أسماؤه، لا نهاية لها، ولا يحاط بها بنصّ قول السيد الكامل (صلى الله عليه وسلم): ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك)). يعني لنا. وإلاَّ فأسماؤه تعالى قديمة بالنسبة إليه: ((أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)).

وبقوله في حديث الشفاعة كما هو في صحيح البخاري: ((فأحمد بمحامد يعلّمنيها لا تحضرني الآن)).

والحمد لا يكون إلاَّ بالثناء بالوصف الجميل وبقوله: ((لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت أنت على نفسك)).

رواه البخاري ، وبقوله لا أحصي ثناء عليك، لا أبلغ كل ما فيك، فليس عند العالم من الأسماء إلاَّ ما تطلب العالم ويطلبها. وما عدا ذلك فاختصاص لبعض الخواص. ومع كون وجوه الحق تعالى لا نهاية لها فهي ترجع إلى أصول سبعة، وهي أئمة وأمهات وكلّيات وأصول لجميع الوجوه، وهي:

القادر، والمريد، والعالم، والمتكلم، والسميع، والبصير، والحيُّ، عند المتكلمين. والحيُّ، العالم المريد القائل القادر الجواد، المقسط، عند الطائفة العلية. وإمام هذه السبعة هو الوجه الحي. فهو إمام الأئمة بإشارة هذه الآية الكريمة، فله عنت ا لوجوه وخضعت، لأنه الشرط في التسمّي بكل واحد منها، والشرط مقدم على المشروط رتبة وطبيعة. قاسم الحي منبع الكمال الذي يستوعب كلّ كمال يليق به، بحسب ما اقتضته ذاته ومرتبته. فهو عين الكمال المشعر بجملته، الشامل لجميع الوجوه من حيث ما تضمّن من الكمالات. إذ معنى الحي في حقه هو اقتضاء الوجود للفعل والإدراك، فجميع الوجوه داخلة تحت هذا. وأخص الوجوه وأشدُّها لزوماً للوجه الحي الوجه القيّوم. ولم يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في السنة ذكره إلاَّ مقروناً به. حتى قال بعض سادات الطائفة: الحي القيوم اسم واحد مركب تركيباً مزجياً كبعلبك، ونحوه. كما قال بعضهم ذلك في الواحد الأحد، والرحمن الرحيم. ومعنى القيوم القائم بنفسه، المقوام لغيره، فهو قريب من الوجه الحي، فإنه تعالى حي لذاته. وحياة كل شيء إنما هي من حياته، ويلي الوجه الحي، من هذه الوجوه، التي هي أئمة وأصول الوجه العليم. حتى جعله بعض القوم إمام الأئمة، وقدّمه على الوجه الحي، نظراً إلى عموم تعلقه بأقسام الحكم العقلي كلها. وإشارة هذه الآية ترد هذا القول، وتقرع صاحبه. ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾[طه: 111].أي أخطأ صواب الصواب من آخر الوجه الذي عنت الوجوه له، وهو الحي القيوم، وقدّم غيره من الوجوه، فإنَّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به الذي يستحقه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!