الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


220. الموقف العشرون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾[النحل: 16/ 126].

تسلية من الحق تعالى لعباده الصابرين على ما أصابهم، بأنه هو عوض وخلف لهم مما فقدوه، ممّا يلائم طباعهم، إذ الصبر حبس النفس على ما تكره. ولا تكره النفس إلاَّ ما لا يلائمها حاضراً، ولو أنه خير لها في الآجل. فلابدَّ للنفوس من التألم النفساني الطبيعي، ولا تقدر على دفعه إلاَّ إذا طرقها حال غالب قاهر يُفْنِيهَا عمَّا به تتألم، كما يفنيها عما به تتلذذ، ولكون التأمل النفساني الطبيعي لا يقدر الإنسان على دفعه، بكت الأكابر وتأوّهت، وأنّت واستغاثت، وسألت رفع الآلام، بخلاف التألم الروحاني فإن الإنسان يقدر على دفعه، ولهذا ترى الأكابر مبتهجة في بواطنها، مسرورة راضية واثقة بحسن اختيار الله تعالى لها، مطمئنة عند نزول الآلام والموجعات بها، وليس هناك شيء غير ملائم بالذات، ولا شر بالذات، وإنم ذلك بالنسبة إلى القوابل والاستعدادات الجسمانية، وأما الحقائق الغيبيّة، فكل شيء نزل بها، فهو ملائم لها، بل لا ينزل بها غير ماهي طالبة له بلسان حالها. فأخبر تعالى الصابرين على فقد الملائم كالصحة والغنى، والعزّ والأمن، والمال والولد، أنه هو تعالى خير لهم ممّا فقدوه، إذا عرفوا أنه هو تعالى وجودهم الملازم وبُدُّهُم اللازم، وما فقدوه من الأشياء الملائمة إنما هو أمور وهمية خيالية، وقال تعالى: "لهو" والهو هو الحقيقة الذي لا يدري ولا يعرف، ولا يسمى ول يوصف، وهو غيب كل شهادة، وحقيقة كل حق، لا يزول ولا يحول، ولا يذهب ولا يتغير، فليس المراد بالهو ضمير الغايب المقابل للمتكلّم والمخاطب. وما قال تعالى، «لأنّا» لأن «الأنا» متعيّن بالحضور، وكل متعين متقيد من حيث ذلك التعين، و«خير» أصله أخير، فهو يدل على المشاركة و المفاضلة، ولا مشاركة ولا مفاضلة، ولكنه تعالى يخاطب عباده بالمعروف، ويماشيهم على النهج المألوف، وإلاَّ فأي مشاركة بين الوجود والعدم، وأي مفاضلة بين الحقيقة والوهم، فمن وجد الله لم يفقد شيئاً، ومن فقد الله لم يجد شيئاً، وفي المناجاة العطائية: «ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك»؟!


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!