الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


219. الموقف التاسع عشر بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَ يُؤْمِنُونَ ﴾[الأعراف: 7/ 156].

والصفتان هما المذكورتان في الفاتحة في قوله: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ﴾[الفاتحة: 1 / 2- 3].

فاسم الرحمة في قوله: «ورحمتي» أعم من الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية، فاسم الرحمة يتناولهما لفظاً، أعني الرحمة الذاتية العامة، والرحمة الذاتية الخاصة، ولذا أضيف لفظ الرحمة إلى الضمير، الذي هو كناية عن الذات، التي تضاف الأشياء إليه، ولا يضاف هو إلى شيء، وهو غيب الغيب وحقيقة الحقائق، وتسمّى الرحمة الذاتية «بالإمتنانية الحبية» لأنها عبارة عن التجلّي الذاتي الأقدس، الذي كانت به الاستعدادات الكلّية للأشياء، لقبول التجلّي، فهو الوجود من حيث انبساطه على الحقائق العلمية، والأعيان الشهودية، وهذه الرحمة واحدة بالذات، متعدّدة بتعدد النسب والاعتبارات والتعدّد عين المتعدّد، وعموم هذه الرحمة شمل كلّ شيء، حتى الغضب والآلام والعذاب ونحو ذلك، ممّا يتخيّل أنه مناف لها، لأن الكل تجلّ من تجلّيات هذه الرحمة العامة، التي وسعت كل شيء، فإنه تعالى أطلق ، ولفظ الشيء يعمّ كلّ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه لغة، فبهذه الرحمة إيجاد كل موجود. ولا يقال في هذه الرحمة أنها تسع الحق تعالى أو لا تسع، لأننا قدمنا أنها عين الوجود، والوجود عين الذات، والشيء لا يسع نفسه ولا يضيق عنها، ومن قوله:

﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾[غافر: 40/7].

فرحمته هنا عين ذاته كعلمه، ولسعة هذه الرحمة وشمولها وسعت أسماءه تعالى، بظهور آثارها، بظهور الكائنات، وأمَّا الرحمة الذاتية الخاصة فهي الرحمة الرحيمية المقيدة بالمتقين وبالمحسنين، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الأعراف: 7/ 56].

وهي التي أوجبها نفسه على نفسه في قوله تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾[الأنعام : 6/12].

وبما قررناه تعلم أن الضمير المتصل في قوله ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ عائد على الرحمة الخاصة الذاتية المفهومة من لفظة الرحمة، المضافة إلى الياء، التي هي كناية عن الذات لا على الرحمة الذاتية العامة، التي وسعت كل شيء، فهذا المساق يشبه التوزيع. ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لتناقض صدر الآية مع عجزها، إذ السعة تقتضي الإطلاق. وقوله ﴿فَسَأَكْتُبُهُا﴾ الخ.. نص في التقييد، والتناقض محال. ﴿ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أي يطلبون التقيّة والستر به تعالى بأن يصير الحق تعالى ـ تقيّتهم ووقايتهم من كل شيء. وذلك بالدخول في جنّة الذات، المشار إليها ﴿يَ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾[الفجر:89/ 27].

﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[الفجر: 89/ 30].

وأمَّا الرحمة الرحمانية الصفاتية العامة فهي الرحمة التي أخرجها الحق ـ تعالى إلى أهل الدنيا، فيها يتراحمون ويتواصلون حتى تضع الدابة حافرها على ولدها ولا تضره، كما في الخبر: ((إن لله مئة رحمة أخرج منها إلى الدنيا رحمة واحدة)) الحديث.

والمائة هي أسماؤه تعالى ، وأمَّا الرحمة الرحيمية، الخاصة الصفاتية؛ فهي التي يرحم بها تعالى من يشاء من عباده، وهي التي تتوقف على المشيئة الربّانية، كما قال: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾[البقرة: 2/ 105]. [آل عمران: 3/73].

ونحو ذلك، وهي التي يتخلّق بها المتخلّقون، ويتحقق بها المحققون، من رسول ونبيّ ووليّ كامل، وهي التي وصف الحق تعالى بها محمداً (صلى الله عليه وسلم) في قوله:

﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة: 9/ 128].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!