الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


215. الموقف الخامس عشر بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَ يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[العنكبوت: 29/ 43].

اعلم أنَّ الحق تعالى يضرب الأمثال بأفعاله، كما يضربها بأقواله، لأن المقصود من المثل التوصيل إلى الإفهام، حتى يصير المعقول مثل المحسوس، ومن جملة الأمثال المضروبة بالأفعال، خلق الحروف الرقميّة، فإنَّ في أرقامها من الأسرار م لا يحيط بها إلاَّ العليم الحكيم، ومن جملتها لام ألف، ففيها إشارات خفية، وأسرار ورموز كثيرة، واعتبار.

منها أن تركيب هذين الحرفين لام وألف، كتركيب الوجود الحق مع صور الخلق؛ فهما حرفان باعتبار، وحرف واحد باعتبار، كما أن صور الخلق هي شيء واحد باعتبار، وشيئان باعتبار.

ومنها أنه لا يدري أي الشعبين الألف، وأيّهما اللام، فإن قلت اللام هو الشعب الأول صدقت، وإن قلت الألف هو الشعب الأول صدقت، وإن قلت بالحيرة صدقت، كم أنك إن قلت، الوجود الحق هو الظاهر والخلق الباطن صدقت، وإن عكست صدقت، وإن قلت بالحيرة صدقت.

ومنها: أن الحق والخلق اسمان، و المسّمى بهما واحد، وهو الذات الظاهرة بهما، كذلك قولنا، لام الألف اسمان، والمسمّى بهما واحد، لأنهما علامتان على حرف واحد.

  ومنها: أنها لا تظهر صورة هذا الحرف المسمّى ألف بأحد الحرفين دون الآخر، كذلك لا يظهر كل واحد من الوجود الحق أو الخلق بدون الآخر، فإن حقّاً بلا خلق لا يظهر، وخلقاً بلا حق لا يوجد.

ومنها: أن شعبتي لام ألف يجتمعان ويفترقان، فكذلك الحق والخلق يجتمعان في الذات الحقيقة الكلّية، ويفترقان في المرتبة، فمرتبة الإله الخالق غير مرتبة العبد المخلوق.

ومنها: أن الرقم تارة يبتدئ الرقم من الشعب الأول في الصورة، وتارة يبتدئ من الشعب الثاني في الصورة، فكلك معرفة الحق والخلق، تارة تتقدم معرفة الخلق على الحق، وهي طريق "من عرف نفسه عرف ربه" طريقة السالكين، وتارة تتقدم معرفة الحق على الخلق، وهي طريقة الاجتباء والجذب طريقة المرادين.

ومنها: أن الإدراك العامي لا يدرك إلاَّ حرف "لا" وهو المسمّى، وهما شيئان في نفس الأمر، لام وألف، فكذلك الإدراك العامي لا يدرك مسمّى الخلق، وهما شيئان في نفس الأمر، حق وخلق.

ومنها: أن اللام والألف لما امتزجا وتركبا بصورة خفيا معاً، وكذلك الوجود الحق، لما تركب مع الخلق تركيباً معنوياً خفي في نظر المحجوبين، فإنهم ل يرون إلاَّ خلقاً. كما أن الخلق خفي في نظر أرباب وحدة الشهود فلا يرون إلاَّ حقاً، فقد خفي الحق والخلق معاً، لكن من جهتين.

ومنها: أنه إذا اختلط شعبتا لام ألف، ولم يبق لصورة "لا" وجود في نظر الناظر زال معنى لا، وكذلك العابد والمعبود والرب والمربوب إذا حصل الفناء وهو الاتحاد عند القوم رضي الله عنهم زالا معاً إذ بزوال العابد يزول المعبود وبزوال المربوب يزول الرب كما هو الشأن في كل متضايفين يزول أحدهما بزوال الآخر، فيزولان معاً وعلى هذا قس واعتبر.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!