الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


194. الموقف الرابع والتسعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 34/ 13].

أمر تعالى آل داود، بأن تكون أعمالهم، كلّها شكراً، وآل داود المأمورين هنا، المقصود منهم الأنبياء خاصة، فهو عام أريد به الخصوص، كما قال زكريا (عليه السلام) : ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾[مريم: 19 /6].

المراد بآل يعقوب: الأنبياء خاصّة، لأن المطلوب لزكريا ميراث النبّوة لا المال: ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 34/ 13].

يعني والكثير غير مشكور،  هذ في عباد الذات، لا في عباد الأسماء، فإنهم غير مرادين هنا، لأن الضمير في قوله: عبادي؛ ضمير الذات،  الجامع لجميع المراتب، فالعباد المضافون بين كامل وأكمل، فالأكملون هم القليل الشكور، ولا يكون العبد شكوراً، بصيغة المبالغة، حتى تكون أعماله كلّها شكراً، ويصرف جميع ما أنعم الله لما خلق لأجله، وأمَّا من كان تارة وتارة فلا. وهذا القليل هم الأنبياء والرسل وورثتهم الكمّل عليهم الصلاة والسلام والكاملون هم الكثير، القَلِيلُوا الشكر، وهم العارفون الذين ما وصلوا رتبة الأكمليّة، فالأكمل لا يقع منه شيء من الأعمال نافلة، بل جميع أعماله فرائض، لأنه إنما يعمل ما يعمل شكراً، وشكر المنعم واجب شرعاً عند السني، وعقلاً عند المعتزلي. ولا يَخْلُو إنسان أي إنسان في وقت من الأوقات، ليلاً ونهاراً، من نعمة أقلها دوام الإمداد، لبقاء الإمداد، فإن الوجود الذي للإنسان بمثابة الجوهر، والإمداد بمثابة العرض. ولا بقاء للجوهر بدون تجدد الأعراض عليه، فإن خلو الجوهر عن العرض محال، ولهذا لما قام (صلى الله عليه وسلم) حتى تورّمت قدماه، وقيل له: أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أ كون عبداً شكوراً؟! فنوافل الأكملين صورة وحكماً وشرعاً نوافل، وأمَّا بحسب ما عندهم فهي فرائض. هذا حال الأنبياء والورثة الأكملين، لشأنهم لا يعملون إلاَّ الأفضل الأحسن، وقد سمعوا قوله تعالى في الحديث القدسي: (( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبُّ إليَّ من أداء ما افترضته عليه)).


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!