الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


193. الموقف الثالث والتسعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً* الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً﴾[الكهف: 18/ 100- 101].

تهديد ووعيد، وجهّنم كل أحد بحسب حاله ومقامه، إذ هي مأخوذة من البعد. فمنهم من جهّنمه الحجاب، ومنهم من جهنمه العذاب مع الحجاب.

والكفر جلي وخفي، وقد وردفي صحيح البخاري: «كفر دون كفر»

وهو مطلق الستر، ولذا الزارع سمّي كافراً، فالكفر الجلي هو ستر ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وجحده، وهو المعروف. و الكفر الخفي، الذي هو أخفى من دبيب النمل ستر الوجود الحق الواجب القديم،  الذي قامت به السموات والأرض وما بينهما، ونسبته للحوادث، بمعنى أن لها وجوداً مغايراً للوجود الحق: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي ﴾[الكهف: 18/ 101].

أي كانت أعينهم محجوبة مغطاة عن رؤيتين فلا يروني ولا يتذكّرون وجودي مع ما يرونه من صور المخلوقات وأشكالها وألوانها، وما قبلها وما بعده

وكذا ﴿ وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً﴾  [الكهف: 18/ 101].

أي لا يقدرون أن يسمعوا منّي ما يسمعونه في ظاهر المخلوقات، مع أنني المتكلم من خلف جدار كل صورة. انظر إلى موسى (عليه السلام) سمع النداء من الشجرة، وعرف أنه كلام الله، مع أن الشجرة في جهة له، والحق تعالى ليس في جهة. والذي جعلهم لا يرون الحقّ في مظاهره وتعيناته، وكانت أعينهم في غطاء عن ذكره، أي عن تذكره عند شهود المظاهر، وكذا جعلهم لا يستطيعون أن يسمعوا كلامه تعالى هو وقوفهم مع التنزيه العقلي المحض غير الممزوج بالتشبيه الشرعي، وما علموا أنه تعالى منزّه مقدس عن الحلول والاتحاد والامتزاج عند ظهوره بالمظاهر من اسمه تعالى الظاهر ، يحس بكل حس، ويشعر به بكل مشعر، من القوى المدركة الظاهرة والباطنة، فيرى بحاسة الرؤية ويسمع بحاسة السمع، ويلمس بحاسة اللمس، من حيث أن الظاهر عين المظهر، قال إمام العارفين محي الدين:

إن قلت أن الحق عنك منّزه

 

فطريق شرعك أنه ملموس

ومنّزه أيضاً بشرعك فاعتبر

في الحالتين فعقلك المبخوس

فيوصف تعالى بأوصاف المحدثات، ويحكم عليه بأحكامها، ومن ذلك ما ورد في الحديث الربّاني في صحيح مسلم: ((مرضت فلم تعدني، واستطعمتك فلم تطعمني)).

وقال تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 48/10].

ويسمى بجميع أسماء المحدثات، كما قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[الأنفال: 9/ 17].

وقال أبو السعيد الخراز: ما عرف الحق تعالى إلاَّ بجمعه بين الضدين ثم تلا: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد: 57/ 3].

وهو المسمّى أبو سعيد الخراز. فكل ما ورد في الكتاب والسنّة من المتشابهات فمحله مرتبة الظهور والتعين بالمظاهر، من اسمه تعالى : الظاهر، وكلّ ما ورد في الكتاب والسنة من التنزيه فمحله مرتبة التجرّد عن المظاهر من اسمه تعالى: الباطن. فاعرف هذا مع اعتقاد التنزيه في التشبيه فإنه الحق الذي لا يمتري فيه إلاَّ محجوب بعقله.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!