الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


173. الموقف الثالث والسبعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾[محمد: 47/ 19]

أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالعمل في معرفة ألوهيته. ونحن مأمورون بأمره اتباعاً له، والعلم على أصحّ الحدود، كما قال المتكلمون، صفة ينكشف بها المعلوم، على ما هو عليه، انكشافاً لا يحتمل النقيض. أو حصول صورة الشيء في النفس، على ما قالت الحكماء. وعلى كلّ ، فالحاصل من النظر الفكري في حق الإله تعالى ماهو علم. فإنَّ من المعلوم تواتراً أنَّ أكابر المتكلمين في التوحيد بالنظر العقلي يعتقد أحدهم المسألة في جانب الإله عشر سنين مثلاً أو عشرين. ثم يبدو له بطلانها، بل يعيش أحدهم مدّة عمره على عقد في جانب الألوهية، وقبل موته بيسير يبدو له خلافه فيرجع عنه. وما يدريه أن جميع ما عقده في جانب الإله كذلك؟! فلو كان الحاصل لهم علماً، ما كان احتمل هذا. وحيث كانت إدراكاتهم في الجانب الإلهي تحتمل النقض والتشكيك، اختلفت مقالاتهم، ولعن بعضهم بعضاً وكفّر وخط بعضهم. فالإله الذي عرفه الأشعري غير الإله الذي عرّفه المعتزلي، غير الإله الذي عرّفه الظاهري، غير الإله الذي عرّفه الحكيم الفيلسوف، وعليه، فما زعموه علماً بالله ليس بعلم، بل هو تخيّل وتوهم، فالحاصل لهم إدراك، ومن أفراده التوهم والتخيل، فالعلم بالله إذاً فيما جاءت به الرسل والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) لهذا ما اختلفوا في إلههم، ولا لعن بعضهم بعضاً، ولا خطأ. بل علمهم بالله واحد وأمرهم جميع. كما قال: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى: 42/ 13].

فالدين هو توحيد الإله، وإقامته هو الإخبار عنه بما أخبرهم به تعالى ـ عن نفسه، ممّا تحتمله البشرية من نعوته وأسمائه، فالإله الذي عرفته الأنبياء والرسل وأتباعهم، غير الإله الذي عرفته جميع الطوائف الناظرة بعقولها، وموازين أفكارها إسلامية وغيرها، فإنَّ إله الرسل و الأنبياء (عليه السلام) مع أنه ليس كمثله شيء، يجيء وينزل، ويهرول ويسعى، ويضحك، ويبشبش، وله قدم ووجه، وجنب وعين، وأعين ويدان وأيدي، ويجوع ويمرض، وهذا الإله لا تعرفه جميع الطوائف، ولا تصدّق بوجوده. بل تنكر ما جاءت به الرسل من نعوته إن كانت كافرة، وتؤوله كانت مسلمة، حتى ترتضيه وتقبله عقولها. فإذا جاء ربّ الأشعري إلى المعتزلي أو الظاهري، أو الحكيم وقال لهم: أنا ربكم، قالوا: نعوذ بالله منك، لست أنت ربّنا! وهذا مكاننا حتى يأتين ربّنا، فإذا داءنا ربّنا عرفناه، وهكذا كل طائفة إذا جاءها ربّ الأخرى تعوذت منه وأنكرته، وذلك لأن أرباب أصحاب العقول مقيّدة محدودة محصورة تحت أحكام العقول، فل تعطيها العقول السراح ولا تطلقها من قيودها، حتى تضحك أو تهرول أو تجوع أو تتحول من صورة إلى صورة، ونحو ذلك؛ بخلاف رب الرسل والأنبياء ومن تبعهم فإنه مطلق ل قيد، ولا حصر، ولا حد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، إن الحكم إلاَّ لله، فيتجلّى كيف شاء بما شاء لمن شاء، وله أن يفعل جميع ما منعته منه العقول، ممّا نعتته به أنبياءه ورسله، مع أنه ليس كمثله شيء؛ فإنهم ما نعتوه إلا بعلم وإذن منه، وربّ الأنبياء والرسول ومن تبعهم لا ينكره أحد منهم، إِذَا قال لهم: أنا ربكم، بل ل ينكرون أرباب الطوائف كلّها، فإنهم عرفوا الربّ المطلق، الذي يحكم ولا يحكم عليه، فمن نظر بعين الإنصاف ورمى التقليد أو التعصب والاعتساف، عرف الحق فعرف أهله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[يوسف: 39].

فمن أراد معرفة إله الرسل والأنبياء ومن تبعهم عليهم الصلاة و السلام ـ فليتبع سنّتهم، ويقف عند حدودهم التي حدَّدوها، ويقتدي بهم ظاهراً وباطناً، ويستعمل الأسباب التي وضعها كمّل العارفين، الداعين عباد الله تعالى إلى معرفته على طريقة الأنبياء، فليواظب عليها فإنه لا سبيل إلى معرفة الله المعرفة المطلوبة منّ إلاَّ بهذه الطريق لا بغيرها من الطرق العقلية أو الرياضية، على غير طريق الرسل وسنتهم. اللهم أني قد بلّغت النصيحة فأنا لكم ناصح أمين، وما أسألكم عليه من أجر، أن النذير العريان، ولا خبر بعد عيان.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!