
المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف
للأمير عبد القادر الحسني الجزائري
![]() |
![]() |
174. الموقف الرابع والسبعون بعد المائة
قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ *وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾[النحل: 16/ 52- 53].
نفي وإنكار على من يتّقى ويخاف غير الله، ويرى نعمة الله من غيره تعالى فيرجوه، وإذا مسّه الضر، جأر إلى الله كما يجأر للبعيد منه الغائب عنه فإذا كشف الضّر عنه أشرك به، ونسب الكشف إلى غيره تعالى . وفي الآية حذف من الأوائل لدلالة الأواخر، وحذف من الأواخر لدلالة الأوائل، فهي في التقدير: ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ ﴾[النحل: 16/ 52].
ومابك من خير وشرّ فمن الله، أفغير الله ترجونه منعماً فترجونه: ﴿وَمَ بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾[النحل: 16/53]
أنكر عليهم تعالى جهالتهم وكشف لهم ضلالتهم، أن يتّقوا ويخافو مخلوقاً، مع اعتقادهم أنه غير الله، فإن غير الله لا ملك ضراً فلا يُتَّقى، مع أنهم في نفس الأمر ما اتقوا إلاَّ الله. ولكن التبس عليهم الأمر، إذ لا غير أصلاً لوحدة الحقيقة، والغيران أمران وجوديان، لا اشتراك بينهما في صفة النفس، وهذا شيء لا وجود له في مشرب التحقيق، فالأغيار أوهام وتخيّلات، لأن الوهم من حقيقته أن ينزل النسب والاعتبارات والإضافات التي لا وجود لها، منزلة الحقائق المعقولة والمحسوسة، فجهلوا جهالتين، جهالتهم بالله وعدم معرفته، وجهالة اتقاء الغير مع اعتقادهم أنه غير، ولو عرفوا لاتقوا الله في مظاهر أسمائه الانتقامية، وهي مقدراته ومصوّراته، ومكوناته، التي جعلها مَجَالاً يخلق الضر عندها وبها:
﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾[النحل: 16/53]
كما اتقيتم غيره تعالى مخافة ضره بأوهامكم العاطلة، كذلك رأيتم نعمه عليكم من غيره فرجوتموه طمعاً في نعمه، وتوهّمتهم أن النعمة الواصلة إليكم بواسطة مظاهره تعالى هي في غيره. كلا وحاشا:
﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾[النحل: 16/53]
لا من غيره، إذ غيره تعالى لا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع، ثم إذا مسَّكم الضر، حيث ما نفعكم اتقاء من اتقيتموه فأوصل إليكم ضره وشره، على اعتقادكم. أو خاب رجاؤكم فيمن رجوتموه فما وصلتكم منه نعمة، جأرتم إلى الله بالتضرّع والدعاء جؤار الجهلاء ودعوتموه فما وصلتكم منه نعمة، جأرتم إلى الله بالتضرّع والدعاء جؤار الجهلاء ودعوتموه برفع أصواتكم دعوة الجفلاء، لأنكم ت وهمتم بعده منكم، وانفصاله عنكم، وهو أقرب إليكم من جلسائكم، ومن حبل وريدكم، بل أقرب إليكم من أنفسكم، فإذا أجاب جاءكم وكشف الضرّ عنكم، مع هذه الجهالات والآداب السيّئة والأوهام الباطلة، إذا فريق منكم بربّهم يشركون، فينسبون ما حصل من كشف ضرّ، ورفع شرّ، وجلب نعمة، وإفضال ورحمة، إلى الأسباب المعهودة، والوسائط المشهودة، ونسيتم الله تعالى مسبّب الأسباب، وخالق الوسائط. فحجب الأسباب أعظم بليّة، وأكبر رزيّة، على أهل الحجاب. ولا تتوهّم إذا رأيت عارفاً خاف، أو رج مخلوقاً، أو اعتبر الأسباب في ظاهره أنه مثل المحجوب في هذا هيهات!! فالعارف إنم يخاف الله في مظاهره، ويرجو الله منها، إذ هو تعالى وضع الوسائط والِأسباب وأمر بمراعاتها حكمة وعدلاً، فشرك العارف حكم لا حقيقة، إذ هو متحقق بالوحدة الحقيقية فهو موحّد، خالص التوحيد، لا غير بالذات عنده. فمراعاته للأسباب، علامة كماله، ورسوخ قدمه في المعرفة بربّه، والأدب معه تعالى.
![]() |
![]() |