الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


165. الموقف الخامس والستون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 5/ 23].

أكثر الناس الكلام في التوكّل، وأسدّها أنه ثقة القلب، وحصول الطمأنينة بوصول القسمة الأزلية للعبد، بحركة أو سكون، من خير وشر ونفع وضرّ، ديناً ودني وآخرة، قليلاً أو كثيراً، مؤقتاً محدوداً بزمانه ومكانه، وليس هذا إلاَّ من مقام الإيمان بأنه تعالى لا يخلف وعده في قوله: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾[هود: 11/ 6].

ونحو ذلك. وأما العقل مجرداً عن الإيمان فإنه لا يعطي التوكّل، بل يجوز أن الله يرزق عبده وأن لا يرزقه، من حيث أنه لئلا يجب عليه شيء لأحد. فليس التوكّل إلاَّ الثقة والطمأنينة، لا ترك الأسباب، مع الشك والاضطراب، فليس هذا من التوكل المطلوب في شيء، ولو كان ترك السبب والحركة توكّلاً للزم إذا وضع الخبز بين يدي هذا المتوكل أن لا يتناوله ويرفعه إلى فيه، فإن هذا سبب وحركة لوصول الخبر إلى بطنه، وإذا وضع الخبز في فيه يلزمه أن لا يمضغه ولا يحرك لساناً ولا غيره، فإنه كلّها أسباب لوصول الرزق إلى البطن. وما اعتنى القوم (رضي الله عنه) بمقام التوكّل وعدّوه من رؤوس المقامات، وتكلفوا ترك الأسباب إلاَّ ليحصلوا على الثقة وعدم الاضطراب عند فقد الأسباب. وهذه هي الثمرة والنتيجة التي لما تكّلفوه، إذ المقامات لا فائدة في أعيانها، وإنما الفائدة في ثمراتها. فإذا حصلوا على الثمرة رجعوا إلى استعمال الأسباب العاديّة والحركات المعهودة لحصول ما يطلبون، كسائر الناس. فطلبو وأجملوا في الطلب، فإذا لم يحصل المطلوب قالوا: "لو شاء الله لكان" فل يقول بترك الأسباب إلاَّ صاحب حال أو جاهل بالطريق وبالسنّة، فتارك السبب مع التمكن منه مأزور بترك الحكمة وتعطيل صفة من صفاته تعالى ـ. فمن نظر إلى باطن العارف وجده جبلاً لا يتحرك، ثابتّاً لا يتدكدك، ليس له نظر إلى الأسباب ولا عبرة له بها. ومن نظر إلى ظاهره رآه كالطائر من غصن إلى غصن، ومن شجرة إلى شجرة. فهذ سيد العارفين وإمام المتوكلين (صلى الله عليه وسلم) جنّد الأجناد وظاهر بين درعين، وحفر الخندق، وادّخر قوت سنة، وتداوى واحتجم، واكتوى، وما ترك سبباً إلاَّ فعله، قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾[الفرقان: 25/20]. ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾[الرعد: 13/ 38].

إلاَّ من أقامه ا لحق تعالى في مقام التجريد، وعسرت عليه الأسباب، بحيث أنه لا يجد إليها سبيلاً، ولو سعى، فهذا كامل، ولو ترك الأسباب. وكذلك الزهد يتصوّره عوام أهل الطريق على غير وجهه، وإنما هو صرف القلب عن الرغبة فيما سواه تعالى وفيما أن يقرّب إليه لا غير، فإنّ ما يزهد فيه، إمَّا أن يكون من نصيب الزاهد وقسمته، أولاً. فإذا كان من قسمته تناوله أحبّ أم كره، ولا يندفع عنه، ولو استعان بأهل الأرض والسماء، وإمَّا أن لا يكون مقسوماً له، فزهد في ماذا؟! أيزهد في قسمة غيره؟ فما قُدِّر لفكيك أن يمضغاه لابدَّ أن يمضغاه.

وعندما ورد الوارد بهذا الموقف تردّدت في تقييده وقلت في نفسي: لا كبير فائدة فيه لإخواني. وبعد زمان يسير حضرت لي أكلة في غير زمانها ومكانها، كنت عزمت وحزمت قبل ذلك أني لا آكلها، وحين حضرت حصل لي يقين بأنها من رزقي، بقرائن أحوال دلّت على ذلك. فقلت: صدق الله وكذبت، وقيّدت هذا الموقف، وعلمت أن هذا تأديب. فليعر فالعبد العاجز الجاهل منزله، ويفوّض أمره إلى من يخلق ما يشاء ويختار، ويترك التدبير معه والاختيار.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!