الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


166. الموقف السادس والستون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَ نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 7/ 22- 23].

وجُوه ناضرة نا عمة مسرورة منبسطة، تلوح عليها شواهد الفرح، فإنه لم كان الوجه هو العضو الذي يقابل به الإنسان الأشياء، جعله الحق تعالى ببديع حكمته، ووسيع رحمته، مثل المرآة تظهر فيه الأحوال القلبية و الِأمور الوجدانية المعنوية، التي لا يمكن لصاحبها أن يعبّر عنها بعبارة تصورها لغيره بل هو ل يتصورها، فإنَّ الفرح والحزن، والقبض وا لبسط، و الحياء وا لوقاحة، وا لحبّ والبغض، ونحوها من الأمور التي لا تصورها العقول، جعلها الحق تعالى تظهر في مرآة الوجه؛ فيحكيها الوجه ويخبر عنها، من غير سؤال ولا حرف، ولا صوت. وا لنعيم و للذة و الفرح وإنْ تعددت مظاهرها فمرجعها إلى زوال الحجاب، ورفع النقاب، ولذلك ع قّب تعالى بقوله: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾[القيامة: 7/ 23].

أي أنها كانت ناضرة ناعمة مسرورة ينظرها إلى ربها، برفع الحجاب بينه وبينها، فتمتّعت برؤياه، وشميم ريّاه. ونظرها إلى ربها لا يكون إلاَّ من وراء مظهر صوري، أو معنوي، دنيا وأخرى، فإنَّ الرؤية بغير مظهر محال:

كالشمس يمنعك اجتلاؤك نورها     فإذا اكتسبت برقيق غيم أمكن

يعني: لابّد في الرؤية من حجاب. والحجاب أمر معنوي لا عين له قائمة، وإنم هو معنى قائم بالصور الجسمية أو الجسمانية أو المعنوية. فليس المراد من رفع الحجاب رفع أعيان الصور، بل رفع المعنى القائم بها، فإنه الحجاب. فإذا ارتفعت الحجابية من الأعيان صارت كلّها مرايا لرؤية وجه الحق تعالى فيها وهي على حالها، ما تغيّر منها شيء في الظاهر. فكما كانت الحجابية قائمة بها، تصير المرائية قائمة بها، فيرى الحق في كل ما يرى. كما أنه كان يحجبه عن الحق كل ما يرى، فسبحان الحكيم القهار، فيعرف الطالب من الله تعالى رفع الحجاب ما يطلب. فإنه إنما يطلب رفع المعنى الحاجب، ل رفع الأعيان، حتى لا يكن جاهلاً بما يطلب، فإن الأعيان لا ترتفع، ولو ارتفعت م كانت رؤية لأنها مرايا رؤية الوجه. والإنسان لا يرى وجهه بغير مرآة ونحوها أبداً، وإن عينك ونفسك من أعظم الحجب، ولا تعرف ر بّك إلاَّ بها، حين تزول حجابيتها وتصير مرآة، فلو ارتفعت من ذا الذي يرى؟! فإذا كنت في حجاب فليس الحجاب ما ترى، وإنم الحجاب ما لا ترى، فإذا زال الحجاب فليست المرآة ما ترى، إنما المرآة ما لا ترى. ومع هذا لابدّ من الصورة في حالة الحجاب وحالة الرؤية، فإن قلتك سمّي الحجاب: القائم بالمحجوب، صحّ لك ذلك، و إن قلت: الحجاب لا قائماً بالمحجوب ولا بالمحجوب عنه صحّ لك ذلك.

وقال: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾[القيامة: 7/ 23].

أي ربّها المضاف إليه إضافة اختصاصية، لا رب غيرها، فإنّ أحداً لا ينظر إلاَّ ربّه، دنيا وآخرة، ولا يعرف إلاَّ ربّه، فإن دائرة مرآة الربوبيّة واسعة، فل يأخذ أحد منهما إلاَّ ما يخص صورته، فلا يرى إلاَّ استعداده أي حقيقته، وهو ربّه، ولذلك يعبّر بعضهم عن هذا المعنى: بأنَّ أحداً لا يرى إلاَّ نفسه. فافهم واعرف.

والرؤية البصرية في الآخرة تابعة للعمل. فكلّ من كان علمه في الدنيا أتمّ، كانت رؤيته في الآخرة أوسع. وأوسع المرايا مرآة السيد الكامل (صلى الله عليه وسلم) كما أنَّ المشاهدة في الدنيا تابعة للعلم، فلا يشاهد المشاهد في الحق تعالى إلا صورة علمه، سواء أكانت المشاهدة في مرآة نفسه أو في مرآة غيره، وأكثر من هذ البيان ما أظنه يوجد في كتاب. والقوم (رضي الله عنه) ما فرّقوا بين الرؤية والمشاهدة، كما هو مقتضى الوضع اللغوي، إلى أن جاء الشيخ محيي الدين (رضي الله عنه) ففرّق بينهما تفرقة اصطلاحية له، فقال: المشاهدة لابدَّ أن يتقدّمها علم بالمشهود، بخلاف الرؤية، فلا يشترط أن يتقدمها علم بالمرئي. فكل مشاهدة رؤية ول ينعكس. يريد أن المنظور إليه، إذا لم يتقدّم للناظر علم به، فإن هذا يسمّى رؤية ل مشاهدة، ولا يقع في هذا إقرار ولا إنكار، وأمَّا إذا تقدم للناظر علم بالمنظور، فإنه يسمّى مشاهدة ورؤية، ويقع فيها الإقرار والإنكار، ولذا وقع الإنكار من أهل المحشر، لأنه تقدم لهم علم بربّهم، وهي العقائد التي كانت لهم في الدنيا، فلو لم يتقدّم لهم علم به ما أنكروه فكانت رؤية. مثلاً إذا حضر عندك إنسان ما كنت تعرفه ولا بلغك شيء من أوصافه وأحواله، وقيل لك: هذا فلان، فلا يتصوّر منك إنكار له ولا إقرار به، فتكون هذه رؤية لا مشاهدة. وإذا كان إنسان آخر كنت تسمع باسمه وتبلغك أخباره وأوصافه وأحواله، حين تصوّرت في خيالك صورة له من سماع أوصافه وأحواله، ثم حضر عندك وقيل لك: هذا فلان الذي كنت تسمع بأوصافه وتبلغك أخباره ومناقبه، فإنك إذ وجدته على الصورة التي تصوّرتها أقررت به، وإن وجدته على خلافها أنكرته، فهذه رؤية ومشاهدة. وانظر فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمّى ما يقع من التجلّي في الآخرة رؤية، وهو أيضاً مشاهدة، كما علم مما مرّ، ومحصّل هذه التفرقة إنما يكون بالنسبة إلى المتجلّي له. فإن كان ممّن علم الحق تعالى في معتقد، وصوّره بصورة، واعتقد أنه لا يتجلّى تعالى بغير تلك الصورة التي اعتقدها، فهذا إذ تجلّى الحق تعالى بغير تلك الصورة أنكره، وإذا تجلّى له بتلك الصورة أقرَّ به، فهذه الحالة تسمّى عند الشيخ تعالى مشاهدة، ويقع فيها الإقرار والإنكار، ويشترك فيها تقدم علم بالمشهود. وأمَّا إذا كان المُتجلّي له، ممّن عرف الحق تعالى بالإطلاق فهو لا يحكم عليه بصورة خاصة، فهو لهذا لا ينكر الحق تعالى في أي صورة تجلّى له. فهذه الحالة تسمّى رؤية ولا يكون فيها إقرار ولا إنكار، ولا يشترط فيها تقدم علم خاصّ بالمتجلّي. فكل مشاهدة رؤية، إذ ليس المتجلّي إلاَّ الحق تعالى في حال الإقرار به والإنكار له، وما كلّ رؤية مشاهدة، إذ المشاهدة يقع فيها إقرار وإنكار، لشرط تقدّم علم بالمشهود، قال بعض العارفين: الحق يشهده كل أحد، ولا يراه إلاَّ القليل.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!