الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


164. الموقف الرابع والستون بعد المائة

قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة: 5/93]

اعلم أن للإيمان بحسب هذه الآية ثلاث مراتب، كما أن للتقوى هنا ثلاث مراتب. فالمرتبة الأولى: الإيمان بالأشياء الغائبة عنا زماماً ومكاناً، مثل الإيمان بيوم القيامة والجنة والنار والدجال ويأجوج ومأجوج... ونحو هذا. فهذه المرتبة في الإيمان لا تنكرها العقول الإنكار الكلّي، وتهرب من التصديق بها، فربّم جعلتها في حيّز الإمكان فقبلتها النفوس.

المرتبة الثانية:الإيمان بالأشياء الحاضرة معنا زماناً ومكاناً، كالإيمان مثلاً بنزول جبريل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن جالسون معه إلى جنبه، وهما يتكلّمان ويتحاوران، ونحن لا نسمع ولا نرى، وكالإيمان بالملائكة الذين يتعاقبون فينا بالليل والنهار، وكالملائكة الحفظة الذين هم ملازمون لنا دائماً... ونحو ذلك، فهذه المرتبة تنكرها العقول و تشمئز منها النفوس، كيف تكون أجسام متكلمة سميعة بصيرة حاضرة معنا بين أيدينا، ول حائل بيننا وبينها، ولا نبصرها ولا ندركها ولا نحس بها؟! فهذه المرتبة الإيمان به أعلى ممّا قبلها، لكون العقول تنكرها وتستبعدها، ومن هنا أنكرت الحكماء الملائكة و الجن، وأنكرت المعتزلة الجن، وقالوا: إذا اجتمعت شرائط الإبصار الثمانية لابّد من الإبصار.

المرتبة الثالثة: الإيمان بما يجمع الضدّين من جهة واحدة، لا من جهتين مختلفتين، فيكون عينهما كالحقّ تعالى فإنه الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الغيب الشهادة، الشاهد المشهود، ونحو ذلك، ككونه معنا أينما كنّا وأينما تولّينا فثمَّ وجهه. فهذه المرتبة الإيمان بها أعلى وأشرف من المرتبتين قبلها. فالإيمان بها صعب جداً على العقول، حتى على المؤمنين بالمرتبتين الأوليين، فكيف بغيرهما؟ ولهذا ترى علماءنا، علماء الظاهر من المتكلمين وغيرهم، لا تطمئن قلوبهم إلى الإيمان بهذه المرتبة، حتى يؤوّلوها فتقبلها عقولهم.

وأمَّا مراتب التقوى فا لأولى: أن يجعل نفسه وقاية للحقّ تعالى ، فينسب كل صادر منه من خير وشرّ إلى نفسه، فيفرح بطاعته ويحزن لمعصيته، وهو المعني بقوله (صلى الله عليه وسلم): «المؤمن من سرته طاعته وساءته معصيته».

وهذه مرتبة العباد والزهاد، الذين خرجوا من الدنيا وقلوبهم مشحونة بالأغيار، فما برحوا من الشرك الخفي، فإنهم يرضون عن نفوسهم ويثيبونها إذا صدرت منهم الطاعة، ويغضبون عليها ويعاقبونها إذا صدرت منهم المعصية، وما ذلك إلاَّ لشهودهم صدور أفعالهم من نفوسهم.

المرتبة الثانية: أن يجعل الحق تعالى وقاية لنفسه في الخير والشر، فينسب الكل إلى الله تعالى يقول: ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾[النساء: 4/ 78].

﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾[النساء: 4/ 79].

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات: 37/ 96].

وهذه مرتبة علماء الظاهر أصحاب التوحيد العقلي.

المرتبة الثالثة: أن يجعل نفسه وقاية للحق تعالى في الشرّ، فينسبه لنفسه أدباً وتفتيّاً لا فعلاً، قال السيد الكامل معلم الأدب (صلى الله عليه وسلم): «والخير بيديك، و الشر ليس إليك».

وقال تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ [آل عمران: 26].

  ولم يقل: «والشرّ» تأديباً لنا وتعليماً؛ ويجعل الحق تعالى وقايته في الخير، فينسب الخير إليه تعالى حقيقة وإيجاداً، ولذ قال الخليل (عليه السلام): ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء: 26 80].

فجمع بين النسبتين، نسبة المرض لنفسه، ونسبة الشفاء إلى الله تعالى ـ، وقد برقت للمعتزلة بارقة من هذا الأدب، وما عاودتهم فضلّوا، قالوا بنسبة الخير إلى الله تعالى فأحسنوا، وقالوا بنسبة الشر إلى العبد خلقاً وإيجاداً فأساءوا. هكذا نقله المتكلّمون عنهم.

والله أعلم بحقيقة الحال. فإنَّ الظنَّ بهم أنهم لا يصلون إلى هذ الحدّ، فينسبون الخلق للعبيد المخلوقين. وهذه المرتبة الثالثة مرتبة ا لسادة العارفين، الذين خصّهم الله تعالى باكتساب الآداب، وهم الذين اتقوا وأحسنو بدخول مرتبة الإحسان، فحصلوا على محبّته تعالى للمحسنين.

﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[البقرة: 2/ 195].

وهي المرتبة الثانية، من مراتب محبة الله تعالى لعباده، وجاوزوه إلى المرتبة الثالثة من مراتب المحبّة، وهي مرتبة: «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره».


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!