الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


160. الموقف الستون بعد المائة

قال تعالى، حاكياً قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾[الصافات: 37/ 102].

هذا تعليم من إبراهيم لابنه (عليه السلام) وتسلية له لما أراد به من الذبح، وإرشاد له أن لا ييأس من الفرج، بأن هذا الموطن الدنيوي ليس هو موطن الانتباه الحقيقي، ولا هو موطن رؤية الحقائق على الوجه الأكمل وعلى ماهي عليه؛ وإنما موطن الانتباه ورؤية الحقائق على ما هي عليه الدار الآخرة. وأنَّ ما تراه من صور هذا العالم خيال، لأنك في مقام.

«الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»

فكما أن الذي رأيته أنا في الرؤيا خيال له تعبير، أي عبور من ظاهره إلى باطنه، فكذلك ما تراه أنت خيال له تعبير، عبور من ظاهره إلى باطنه، فكلّنا رأى خيالاً في منام، غير أنني أنا رأيت ما رأيت في الخيال المتصل، وأنت ترى ما ترى في الخيال المنفصل، وحقيقة الخيال واحدة. كل هذا من إبراهيم ليزهّد ابنه (عليه السلام) في حبّ الحياة، وكان الخليل (عليه السلام) عالماً بأنَّ الرؤيا لها تعبير غالباً. ولكن لما كانت رؤياه فيها الأمر بذبح الولد،  تأدّب وفوّض تعبير رؤياه إلى مولاه وقال: إن كان لرؤياي تعبير فالله أولى به، وإن لم يكن لها تعبير فأنا منفذ أمر ربّي، فجمع أسباب إنفاذ الأمر. وما بقي إلاَّ الفعل فعبّر له ربّه رؤياه بذبح عظيم. وبذلك مدحه الله بقوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾[النجم: 53/ 37].

أي عمد إلى ذبح ولده وقطعة كبده لرؤيا رآها. قرَّت عين أم إبراهيم، كم قال الأعرابي لما سمع: ﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾[النساء: 4/ 125].

فانظر: ماذا ترى لا ترى إلاَّ حقاً ظاهراً، بشهادة قوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد: 57/ 3].

أي لا غيره. فإن رأيت غيره فهو خيال زائل، ووهم باطل، فاتّهم نفسك، وحدّق بصرك فإن الممكنات إمَّا حقائق، وهي الأعيان الثابتة في العلم لا توجد خارجاً، وإمَّ أعراض لا تبقى زمانين. فهي تمر كمرّ السحاب، فما ترى إلاَّ حقاً ظاهراً متلبساً بخيال سائر، وذلك لأن الأسماء الإلهية تظهر متلبسة بأحكام الاستعدادات، أعني حقائق الممكنات، وهي لا تظهر أبداً، وإنما تظهر الأسماء بظهور الذات متحجّبة بالأسماء، و الأسماء متحجّبة بأحكام الممكنات، فال محجوب لا يرى إلاَّ أحكام الممكنات، والذي أعلى منه يخرق حجاب الممكنات، ويصل إلى الصفات. والأعلى المحقق يخرق حجاب الممكنات و الصفات، ويصل إلى الذات فيسمّى الحق تعالى نفسه : الظاهر الباطن، بهذا فهو الظاهر، لأن الأسماء نسب، فهي أعدام. وإنما المقوم لها الذات، فالظاهر الذات، والباطن الأسماء، وهو الباطن لأن الأحدية الذاتيّة لا تجامع الكثرة الأسمائية، فالباطن الذات والظاهر الأسماء.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!