الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


157. الموقف السابع والخمسون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا﴾[هود: 11/ 41].

قال نوح العقل الذي هو وزير الروح، ومدّبر مملكته الإنسانية لما خاف هلاك مملكة الخليفة، عندما فار تنّور الهوى بالإفساد، وإيقاع الاختلاف في المملكة، لمن أطاعه واتبعه: اركبوا فيها، في سفينة الروح الجامعة بين الشريعة والحقيقة، فإنه المنجية من كلّ هلاك، فاستمسكوا بها، وليس ركوبها إلاَّ طاعتها واتباعها فيما تدعو إليه: ﴿ بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾[هود: 11 / 41].

فبدايتها من الله، ونهايتها إلى الله، وهي فيما بين ذلك مع الله، إنَّ ربي لغفور كثير الاستتار، يظهر في ملابس الأكوان، فيسمى بأسمائها، ويحكم عليه بأحكامها، كظهوره بصورة السفينة، فقيل: إنها منجية، وهي المنجي لا السفينة، كم أنَّه المغرق المهلك بصورة الماء لا الماء، فركبوها وسارت: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾[هود: 11/ 42].

هي أمواج الأكوان، تجري من كون إلى كون، من عالم إلى عالم، ومن موطن إلى موطن. وشبّه الأمواج بالجبال لأن خروج النفس و الجوارح عن الأكوان والمألوفات أثقل عليها من حمل الجبال،  ونادى نوح العقل ابنه الهوى، سمّاه ابنا شفقة عليه ورحمة، وكان الهوى في معزل عن الروح والعقل، فإنه ضد الروح المنازع له الثائر لطلب أخذ المملكة من يده، المفسد عليه صلاح زوجه.

﴿ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾[هود: 11/ 42].

أطغ الروح وانقد له، وكن معه، ولا تكن مع السائرين الجاحدين فضل الروح وشرفه وسعادته، وسعادة كل من كان معه، قال الهوى: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾[هود: 11/ 43].

سأتعلق بكون من الأكوان العظيمة ينجيني من الهلاك، وأحصل على النجاة، كم يقول الفيلسوف: "اسلك من عالم العناصر إلى عالم العقول والطبيعة"، فذلك عنده النجاة وبه يحصل السعادة، فيرحل من كون إلى كون، كحمار الرحى يدور، والذي رحلّ إليه هو الذي رحل عنه، فقال نوح العقل لكمال معرفته ونفوذ بصيرته: ﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾[هود: 11/ 43].

لا ينجي من غرق الأكوان، وطوفان الأغيار، كون من الأكوان، وإن عل وعظم، فإنَّ الكون كلّه ممكن، فقير عاجز، فلا يعصم كون من كون:

ووصف العجز عم الكون طر

 

فمفتقر بمفتقر ينادي

فحدّق أعين الإيمان وانظر

ترى الأكوان توذن بالنفاد

فلا نجاة لمن تعلق بالغير والسوى، وإنما تحصل النجاة والسعادة لمن تعلق بالله تعالى ـ، وانحاش إليه، وأفرد التوجّه إليه، والتوكل عليه، فرحل من الأكوان إلى مكونها ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾[هود: 11/ 43].

فعرج الروح بمن أطاعه وتعلّق به إلى حضرة الصفات، وبحبوحة الذات، فنجو وسعدوا سعادة الأبد، وبقي الهوى ومن أطاعه في شرك العناصر وأسر الأغيار.

﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾[هود: 11/ 43].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!