
المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف
للأمير عبد القادر الحسني الجزائري
![]() |
![]() |
156. الموقف السادس والخمسون بعد المائة
قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾[الجاثية: 45/ 23].
الهوى ميل النفس إلى ما يضرها أو يهلكها رأساً، في الإصطلاح. وأمَّا بحسب الوضع فهو أعم: قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾[القصص: 28/ 50].
وهو وصف للنفس وهي موصوفة به، وحيث كان الهوى صفة قاهرة، أمرها نافذ، وحكمه مطاع، تنوسيت النفس الموصوفة به، وصار الذكر والحكم له.
﴿ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ ، أي جعل ما يجب على الإنسان ويلزمه في حق إلهه وخالقه من الطاعة وكمال الانقياد وامتثال الأوامر لهواه. وجعل ما يجب أن يقابله الهوى من العصيان وعدم الانقياد والنفور عن سماع الأوامر الإلهية. فعكس القضيّة، فعظمت الرزيّة، فعلى نظم الآية يكون المفعولان من باب "كسا" وعلى ما قيل من القلب يكون المفعولان من باب "ظنّ" إذ يقال: الهوى إلهه، من حيث أنه مطاع نافذ الأمر في الإنسان، ولذا قيل: ما عبد شيء من دون الله تعالى ـ أعظم من الهوى. وهو الثائر على الروح في مملكته الإنسانية، فيفسدها عليه دائماً، فالهوى كالهواء، فراغ. ومن اتبع الهوى حصل على الهواء وأضلّه الله على علم. والضلال من العالم عند العقلاء شيء بعيد وأمَّا من غير العالم فغير بعيد، بل هو كثير، كما قال: ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام: 6/ 119].
وهذا السياق إنما يُؤتَى به في الأمور المستبعدة. أي أخبرني عمّن عصى مولاه، وأطاع هواه، فاتخذ إليه هواه، وأضلّه الله على علم، أليس هذا بشيء غريب؟ وأمر عجيب؟ وذلك لأن العلم، الذي هو وصف للعالم، كما هو عند الجمهور غير موجب للسعادة، ولا منقذ من الغواية، وإنما العلم الموجب للسعادة قطعاً هو العلم الذاتي، الذي يجده العالم به ذاته لا صفته، فافهم. وهو العلم الذي جمع الأشياء كلّها فاتّحدت به، وتمايزت بتعيّنات عدميّة، فبحسب م يحصل من الاتحاد، بزوال الأمور الخارجية عن الحقيقة بين الشيئين، يكون العلم قوة وضعفاً، قلة وكثرة، فما دام العالم يعلم بعلم، هو صفة له عنده فعلمه غير موجب لسعادته. فإذا عرف أن علمه عين ذاته العالمة ذوقاً فحينئذٍ يكون علمه موجباً لسعادته. والناس وكلّهم إنما يعلمون بهذا العلم، لأنه حقيقة واحدة غير متعددة، وحيث جهلوه، ما نفعهم ذلك: ﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 2/ 216]، و[النور: 24/19].
فافهم أو سلّم، فلا يفتك حفظ رأس المال إن لم تربح وتغنم.
![]() |
![]() |