الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


142. الموقف الثاني و الأربعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[الملك: 12].

أخبر تعالى مؤكداً لخبره ووعده الصادق، ومن أصدق من الله قيلاً، ومبشراً لعباده الذين يخشون ويخافون ربّهم، أي حضرة الربوبية الجامعة للأسماء التي يرب تعالى بها عباده، لا أن كلّ واحد منهم يخشى ربّه الخاص به فإن أحداً لا يخشى ربّه الخاص به، فإنه عند ربه مرضي، وهو راض عنه في الدنيا، ولذا كان كل حزب بم لديهم فرحون في الدنيا فقط، وكذا قوله: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾[الأنعام:108]

وإنما كانت خشيتهم لأسماء الربوبية، أي الحضرة الجامعة شعروا أو لم يشعروا.

وقال"بالغيب" أي يخافون ربهم مع اعتقادهم غيبته عنهم، ومباينته لهم، لا يدركونه بشيء من مدركاتهم الظاهرة والباطنة، وهذه مرتبة عامة المؤمنين. أعني علماء الظاهر قاطبة والمتكلمين في التوحيد العقلي، فهم يؤمنون ويخشون ربّاً غائباً عنهم، بعيداً منهم، وليس حضوره مع عباده وقربه منهم ومعيته إلاَّ بعلمه وقدرته دون ذاته عندهم، تعالى عما يصفون، ولهذا كانت مرتبة هذه الفرقة من المؤمنين دون غيرها، فبشّرهم تعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم يوم القيامة، أي يسترها عن غيرهم من أهل المحشر، ولكن لا يسترها عنهم، بل لابدَّ لهم من العرض والتقرير بذنوبهم، كما ورد في الصحيح، أنه لما قال (صلى الله عليه وسلم) : ((من وحسب عذب)) قالت عائشة: يا رسول الله أو ليس يقول الله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً﴾[الانشقاق: 8- 9].

فقال يا عائشة؛ ذلك العرض، وإلاَّ فمن نوقش الحساب يهلك، وصفة العرض كم ورد: هو أنه تعالى يلقي كنفه، أي ستره، على عبده المؤمن حتى لا يراه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فيقرره بذنوبه فلا يسعه إلاَ الإقرار، فيقول له الحق تعالى : ((قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم))

وكما بشر تعالى هذه الفرقة من المؤمنين بأن يغفر لهم ذنوبهم، بشّرهم بأنه يعطيهم أجراً كبيراً، أي جزاءً عظيماً بالنسبة إليهم، من حور وغلمان، وقصور ولذّات، ونعم متنوعّة محسوسة، وسمى ما أعطاهم أجراً أي جزاء لأعمالهم، لأنهم ك نوا يعملون لذلك، والجزاء من جنس العمل، وهذه الطائفة هي المعنيّة بقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[هود:11].

وبقوله: ﴿الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[هود:11].

وأما الذين يخشون ربّهم لا بالغيب، ولكن بحضوره معهم، وهم الطائفة الثانية، أهل مقام الإحسان، الذي عرّفه (صلى الله عليه وسلم) بقوله: ((أن تعبد الله كأنَّك تراه)). فهم يخشون ربّهم على حضوره معهم، ويعبدونه على أنه مناج لهم، وهم يناجونه، وأنه في قبلتهم، وبينهم وبين القبلة، ونحو هذا ممّا ورد في التعليم النبويّ، وهم مع هذا يرونه غيراً لهم ومنفصلاً عنهم، وهذه الطائفة أعلا من الأولى درجة، وأقرب إلى الله تعالى منزلةً، وهم المعنيون بقوله: ﴿أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[الأنفال : 4].

وبقوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[سبأ: 4].

وبقوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[الحج: 50]

وبين مغفرة هذه الطائفة والطائفة الأولى بون وإن اشتركا في اللفظ.

وأما معرفة الطائفة الأولى فقد سبق بيانها. وأما مغفرة الطائفة الثانية فهي أن يستر ذنوبهم عن أهل المحشر وعنهم، بحيث لا تبقى لذنوبهم صورة أصلاً، بل تبدّلأ سيئاتهم حسنات، كما قال: :﴿فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾[الفرقان: 25/ 70].

كما أن ما أمتنّ به على الطائفة الأولى غير ما امتنَّ به على الطائفة الثانية: فسمى ما تفضل به على الأولى أجراً، أي جزاء لأعمالهم، لأنهم كانو مستغرقين في نسبة أفعالهم لنفوسهم، وإن كانوا يعتقدون أن الله خالقها؛ وسمّى م تفضّل به على الثانية رزقاً كريماً، والرزق ما ينتفع به أعم من الرزق الحسي والمعنوي بالمشاهدة والعلوم والمعارف، وهذه الطائفة وإن كانت مثل الأولى في نسبة أفعالهم إليهم، ورؤية نفوسهم موجودة فاعلة: فه يمن جهة حضورها مع الحق تعالى وتخيّله رقيباً مناجياً كأنها تراه، أشرف من الذين يخشونه غائباً عنهم.

وإلى الطائفة الأولى الإشارة بقوله:

﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾[النساء: 124]

وإلى الطائفة الثانية الإشارة بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾[النساء: 125].

بدخوله حضرة الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنَّك تراه.

وقوله: ﴿ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾

إشارة إلى الطائفة الثالثة التي هي أعلا الطوائف. أي بعد أن دخل حضرة الإحسان، ارتقى إلى حضرة الشهود والعيان، وهي ملة إبراهيم، أي طريقته المشار إليه بقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[الأنعام : 79].

أي ظهر بهما وبكلّ ما فيهما.

﴿ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[الأنعام : 79].

فلا أرى غير وجهه تعالى في كل واجهة، إذ رؤية الغير شرك.

وإلى الطائفتين الأولى والثانية الإشارة أيضاً بقوله: ﴿وَمَ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الصافات: 39].

وإلى الطائفة الثالثة الإشارة بقوله: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾[الصافات: 40 و74 و128 و160].

فلا جزاء لهم غير مولاهم ومحبوبهم الذي تولاهم، فغابوا به عنهم، ول مغفرة لهم إلاَّ ستر نفوسهم عنهم، بحيث لم يشهدوا لها أثراً. فهم لا موجودون ول معدومون، ولا ثابتون ولا منفيون، ولا فاعلون، ولا غير فاعلين، فليسوا بمطيعين ول عاصين، فلا مغفرة ولا أجر، بل هم كما قال : ﴿هم درجات عند الله﴾[آل عمران: 3/163].

فبهم ترفع الدرجات، وبهم تغفر الذنوب، وتعطى الأجور، وتُدَرُّ الأرزاق دنيا وأخرى. فعلم من هذا: أنَّ الطوائف الناجية ثلاث، وإن تفاوتت في النجاة: طائفة خشيت رباً غائباً،  وطائفة خشيت ربّاً حاضراً، وطائفة لم تتقيّد بغيبة ولا حضور، ولا بطون ولا ظهور، بل كان برزخاً جامعاً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!