الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


137. الموقف السابع والثلاثون بعد المائة

قال تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ﴾[الحديد: 57/ 4].

الخطاب عام لكل مخلوق، ومعيته تعالى مع مخلوقاته ليست كمعية المخلوقات بعضها مع بعض، تعالى الله عن ذلك، وإنما هي معيّة وجوده الذي لا يتعدّد ولا يتجزأ ولا يتبعّض، ولا ينفصل، ولا يتصل، المفاض على كل مخلوق من العرش إلى الذرة. فمثال هذه المعيّة ولله المثل الأعلى كما ترى الصورة في المرآة، فالذات المتوجّهة على المرآة هي الحافظة الممدّة والوجود للصورة في المرآة، وليست الذات على الحقيقة غير الصورة في المرآة، وإن كانت غيرا بحسب الوهم، فله تعالى المعية كما قال، ولنا التبعية لا المعية، إذ الصورة في المرآة تابعة للذات المتوجهة على المرآة ول هذا تنعدم بمجرد الإعراض عن المرآة؛ فهو معنا إذ لا يمكن أن نكون ولا هو، ولسنا معه إذ كان ولا نحن، وما خطبنا تعالى بأنه معنا إلاَّ لكونه ثبت لنا عندنا وجود مغاير للوجود الحق، بحسب حسّنا وعقلنا، لا في نفس الأمر، ولو خاطبنا تعالى بما هو الأمر عليه في نفسه لخاطبنا بغير هذا الخطاب. وأكثر ما ترد الخطابات الإلهية في الكتب المنزّلة على ألسنة الرسل (عليه السلام) بم تقرَّر في عقول العامة وغلب على أوهامهم، إذ ليس في نفس الأمر و الحقيقة إلاَّ الوجود الظاهر بأحوال الممكنات، وهو المقوّم لتلك الأحوال بمعيّته، التي هي عين وجوده، الذي هو عين ذاته ، وهي تابعة له تبعية العرض للجوهر، ولله المثل الأعلى؛ فهو تعالى مع كلّ شيء لأنه وجود كلّ شيء، وحقيقته، وبه كان ذلك الشيء هو هو، وليس معه شيء إذ ليس لشيء وجود غير وجوده تعالى على حسب ما هو الأمر عليه.

وأما بحسب الوضع اللساني، وبحسب اعتقاد من يعتقد أن لكل شيء وجوداً حادثاً به ثبوته وحصوله وتحققه غير الوجود الحق القديم، فمن كان معك فأنت معه ل محالة. وليس الأمر هكذا عندنا، فمعيّته هي ر حمته تعالى بكل شيء حيث يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 7/ 156].

وما وسع كل شيء إلاَّ الوجود والعلم اللذان هما عين الذات، ﴿رَبَّنَ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾[غافر: 7]، وهي وجهه أينم نتولى، وحيث يقول: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾[البقرة: 3/115].

ووجه كلّ شيء ذاته. وهي قيّوميته على كل شيء حيث يقول: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ﴾[الرعد :13/ 33].

وهي علمه بكّل شيء حيث يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾[النساء: 4/ 32]

وهي حفظه لكل شيء، حيث يقول: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾[هود: 11/57].

وهي شهادته على كل شيء، حيث يقول: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[المجادلة: 58/ 6].

وهي إحاطته بكل شيء، حيث يقول: ﴿وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾[النساء: 4/ 108].

وهي قدرته على كل شيء، حيث يقول: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً﴾[الكهف: 18/45].

وهي خالقيته لكل شيء حيث يقول: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الزمر: 39/ 62].

وهي وكالته على كل شيء، حيث يقول: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[الزمر39/ 62].

وهي إقاتته على كل شيء،  حيث يقول: ﴿وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾[النساء: 4/85]

وهي حسابه على كل شيء حيث يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾[النساء: 4/ 86].

فمعيته إذا بذلته الجامعة لصفاته، لا بصفة العلم، على المعنى الذي يعرفه علماء الرسم. ولو قالت به ألف فرقة، ولمَّا كانت معية الحق تعالى لنا، بالمعنى الذي ذكرناه، وهو معنى وحدة الوجود، وأنه لا وجود إلاَّ وجوده تعالى ـ، ولا صفات إلاَّ صفاته تعالى كان الوجود المنسوب إلى المخلوق مجازاً، هو وجوده تعالى كما قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[الأنفال: 9/ 17].

وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾[الفتح : 26 10].

وكان العلم المنسوب إلى المخلوق علمه تعالى كما قال: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 2/216]. [آل عمران: 3/66]، [النور: 24/19]

وكانت الأفعال والقدر المنسوبة إلى المخلوق أفعاله تعالى كما قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات:37/ 96].

أي خلقكم وخلق أعمالكم وقال: ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّ كَسَبُواْ﴾[البقرة: 2/ 264]،  وكانت المشيئة المنسوبة إلى المخلوق مشيئته تعالى كما قال: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [الإنسان: 76/ 30].[التكوير: 81/29].

وكذا السمع المنسوب إلى المخلوق والبصر سمعه تعالى وبصره كما قال:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى: 11].

إذ مفاد الآية يقتضي الحصر. أي كل سميع بصير هو.

وكذا الحكم المنسوب إلى الخلق حكمه تعالى كما قال: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ [الأنعام :57]. [ يوسف : 40] [يوسف : 67].

فهو تعالى مع مخلوقاته بالوجود، وتوابع الوجود. وقد ورد في خبر: «كان الله ولا شيء معه»

أي كانت صفات الألوهية التي بها سمي إلهاً ثابتة له أزلاً، حيث لا شيء معه من المخلوقين المألوهين موصوف بالوجود وإن كانوا موصوفين بالثبوت. ولما كانت هذه العبارة يوهم ظاهرها: أنه صار معه تعالى بعد إيجاد المخلوقات شيء أدرج الراوي: "وهو الآن على ما عليه كان" دفعاً لهذا التوهم، بمعنى أنَّ مَعِيَّة شيء له تعالى منتفية أزلاً وأبداً، قبل نسبة الموجودية لشيء وبعدها. والذي حمل الرّاوي على هذا هو فهمه أنَّ "كان" ناقصة، والأصوب أنها تامة وأنها للوجود، كما هي عند سيبويه. بمعنى الله وجود ولا شيء معه له وجود غير وجوده ـ تعالى أزلاً وأبداً، إذ المعية تقال على شيئين، كل واحد منهما له وجود غير وجود الآخر. وهذا الخبر تداوله أئمة القوم رضوان الله تعالى عليهم وقال الحفّاظ: إنه غير ثابت في شيء من كتب الحديث. والذي في صحيح البخاري: «كان الله، ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء».

ولا يتوهم أن "كان" الأولى والثانية في هذا الخبر بمعنى واحد لأن "كان" يكون معناها بحسب مدخولها. "فكان" الأولى بمعنى الوجود أزلاً لا رائحة للزما ن فيها، فهي للوجود. و"كان" الثانية بمعنى الكون بعد العدم، إذ العرش حادث مسبوق بالعدم، فهي للزمان؛ فمن علم المعية على ما قلنا علماً ذوقياً حالياً كان السيد الكامل. ومن علمها علماً خيالياً كان العالم الفاضل. ومن آمن وسلم كان المؤمن العاقل. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!