الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


125. الموقف الخامس و العشرون بعد المائة

قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ *وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾[العاديات: 100/9-10].

القبور هي الأجسام الآدمية، فإنها قبور الأرواح، إذ كل من ستر شيئاً فهو قبر له، ومنه قبر السيف غمده، وبعثرتها هو إخراج ما فيها وإظهارها بعد الموت، أعم من حالة البرزخ، وحالة البعث والنشور. وذلك بتمييز مافيها من الأفعال الخيرية والشرية عن الأجسام، وعن ب عضها بعضاً، فإن لكل عضو فعلاً خاصاً: من يد، ورجل، ولسان، وسمع، وبصر، وفرج، وبطن...... ولكلّ فعل من أفعال هذه الأعضاء صورة خاصّة، يتصوّر بها في البرزخ وفي يوم القيامة، فيتصور فعل الأذان آنكّا يصب في الأذن، ويتصوّر فعل البطن نهراً من دم يسبح فيه، وكلما أراد أن يخرج ألقم حجراً، فيلقمه بفيه. ويتصوّر فعل الفرج تنور يتوقد ناراً، ويتصوّر فعل اللسان كلوبا يحزحز به شدقه إلى قفاه، والكنز يتصوّر بصورة شجاع أقرع، له زبيبتان يأخذ بلهمزتيه يقول: أنا كنزك... كما ورد في الصحاح. ونحو هذا.    وهذه الأفعال كانت في الحياة الدنيا أعراضاً قائمة بالأجسام العاملة، وأوصافاً لها، وهي ب عينها تصير بعد الموت أجساداً برزخية مثالية يتنّعم بها العامل أو يتعذب، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَ كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[يس: 36/ 54].

 وقال: ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾[الأنعام: 6/ 139].

ففي الحياة كانت الأفعال وصفاً للفاعل وعرضاً قائماً به. و بعد الموت تستخرج هذه الأوصاف، وتتمّيز عن العامل، وتصير أجساداً ذات صور، كما تتصوّر في الرؤيا،  كالعلم في صورة اللبن، والدين في صورة الثوب... وبعد البعث تصير هذه الصور المثاليّة أجساماً محسوسة، لأن الحقائق تظهر في كل موطن بحسب ذاك الموطن. فلا تظهر المعاني متجسدة متصوّرة بصورة في الموطن الدنيوي إلاَّ في الرؤيا، أو لصاحب كشف. ويختص برؤيتها النائم والمكاشف دون الحاضرين معه؛ وكذا الأعمال الصالحة و السيّئة في البرزخ، وهي بعينها تظهر بعد البعث في موطن الآخرة أجساماً محسوسة، يدركها كل مدرك، لا يختص بها صاحبها، فهي حينئذٍ صور وقصور ومشتهيات.

﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾[العاديات: 100/10].

ميّز. ومنه تحصيل المعدن، وهو تمييز الذهب أو الفضة من التراب. والصدور هي القلوب مجازاً، وفيه مجاز آخر ابحث عنه. ومافي القلوب هي النّيات والمقاصد. فربّ عامل يقول بلسانه: أعمل لله تعالى ، وقصده ونيّته غير ه تعالى ، ذلك : ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾[الطارق: 86/9].يميّز خبثها بالتصفية، كم تبلى الفضة ب النار. فلا يقبل قول ولا عمل إلاَّ بنّية صالحة وقصد صحيح: ((إِنَّم الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) .

فلا تقبل حيلة ولا تروج بهرجة في ذلك الموطن، قال البخاري(رضي الله عنه) في الصحيح، باب ترك الحيل، وساق الحديث المتقدم النص، الصريح في إبطال الحيل على الله تعالى ـ، وأنها لا تنفع في الدار الآخرة. والعجب كل العجب من الفقيه الذي يقول بسقوط فرض الزكاة عنه إذا وهب ماله لزوجته قرب الحول فراراً من الزكاة، ويتوهّم أن هذا ينفعه يوم القيامة، بالله وياللمسلمين!! أيخادع مؤمن ربّه؟.. ألاَّ يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ لا والله، لا يصدر هذا إلاَّ ممّن يقول: إنه يعلم إذا جهرنا، ولا يعلم إذا أسررنا، فأنزل تعالى: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [هود: 11/5].

نعم إنَّ هذه الحيل تسقط عقوبة الدنيا ومطالبة السلطان، الذي لا يعلم إلاَّ الظواهر ولا يحكم إلاَّ عليها، فأما السلطان الأكبر، الذي يعلم السرّ وأخفى، ويحكم على البواطن والظواهر، فهيهات هيهات أن تسقط مطالبته بالحيلة و المخادعة!!..

ولو كان هذا المتحيّل على الله تعالى عمل ما عمل، على اعتقاد الحرمة والمعصية لكان خيراً له وأولى به، فإنه ترجى له التوبة والاستغفار. إذ في اعتقاد حرمة الشيء مع فعله، على أنه حرام، خير عظيم وأجر كبير. وإنّي أنزّه الإمامين أبا حنيفة والشافعي (رضي الله عنه) أن يقولا بإسقاط مطالبة الحق تعالى في الآخرة بالحيلة. هذا بعيد عن أئمة الهدى. بل أتيقن أنهما ما قالا إلاَّ بإسقاط مطالبة حكام الدنيا فقط، ولهذا قال المحققون من الشافعية كالغزالي (رضي الله عنه) أنَّ الشافعي يحرّم استعمال الحيل في الأحكام.

وقد رأيت في الرؤيا: أني أتذاكر مع جماعة في الفقه والفقهاء، وم أحدثوا واستنبطوا من الحيل، في التوصّل إلى الأغراض، وشهوات القلوب المراض، فقال واحد من الجماعة: هذه أقوال أهل الكشف العارفين بحقائق الأشياء، المطلعين على بواطن الأحكام. ليس فيها شيء من هذه الحيل، وهذا مشارق الأنوار، (يعني كتاباً كان بين أيدينا) ليس فيه شيء من هذا، فقلت أنا: وهذه سنّة النبي المختار، ليس فيها شيء من هذا، وهذا كتاب الله الذي لا يأتي ا لباطل من بين يديه ولا من خلفه ليس فيه شيء من هذا. فقال بعض الجماعة: ليس في العلوم علم أبعد من الله من فقه هؤلاء المتحيّلين على الله تعالى ـ، الذي يعلم سرهم ونجواهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!