الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


123. الموقف الثالث و العشرون بعد المائة

قال تعالى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت: 29/ 3].

قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾[محمد: 47/ 31].

قال: ﴿ِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾[الكهف: 18/ 12].

ونحو ذلك مما يشعر بحدوث العلم وتجدده. فاعلم أن الوصول إلى فهم هذ يحتاج إلى إسهاب، فلذلك نقول: إ ن الحق تعالى ، في هويّة ذاته الغيب المطلق، وباعتبار الذات البحت لا يحكم عليه بشيء، لا بوصف ولا اسم،  لا علم ولا غيره، لأنَّ ذلك يقتضي التعين. ومهم تعقل له علم جاءت الكثرة إلى عالم ومعلوم وعلم، وكانت النسب الإلهية و الكونية قبل تعلّق علمه بذاته مستهلكة مندرجة في ا لذات، لا تمّيز لها عن الذات ولا عن بعضها، إذ هو مقتضى الأحديّة الحقيقية، فلما مالت الذات إلى الظهور و التعين، بميل هو عين ذاتها، لا بتخلل صفة تعلق علمها، الذي هو ذاتها بذاتها. وهذا العلم هو أول التعينات، والتنزل من الغيب المطلق، فتمّيزت الحقائق الإلهية والكونية تميز المفصل في المجمل. ولهذا نقول: علم الحق تعالى في هذه الحضرة إجمالي، ولا محذور فيه، لأن المعلومات حينئذٍ جملة واحدة. وب هذا يسمى هذا التعين بأحديّة الجمع، فالعلم المضاف إليها يسمى علماً إجمالياً. فلو قيل: العلم المتعلّق بهذه الحضرة، أعني حضرة الوحدة، علم تفصيلي للزم الكذب. والعلم لا يوصف بالتفصيل و الإجمال، لأنهم من لوازم الكم وعوارضه، فصار هذا العلم النفسي الإجمالي،  الذي هو عين الذات للذات، ولما هو مستهلك ومندمج فيها من الحقائق المعلومة، بمثابة مرآة ارتسم فيها ما قابلها:

﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾[النحل: 16/ 60].

ويسمى هذا العلم والتعين بنفس الرحمن وبباطن العلم، ويتعلّق بما ل يتناهى، لأنَّه عين الذات الذي لا يتناهى، وهو تابع للمعلوم رتبة لا ترتيباً، إذ الذات، من وجه تسميتها معلومة متقدمة على نفسها من وجه تسميتها عالمة، وليس هناك استرسال كما قال إمام الحرمين، ولا حدوث تعلق، كما قال الفخر الرازي، وإنما هو تأخر ذاتي لا زماني، وربما عبّر عن هذا التأخير بالحدوث، ثم إن هذه المرآة العلمية في العدم، لأنه ليس في مقابلة الوجود شيء إلاَّ العدم، فارتسم في المرآة العلمية في العدم، فصار العدم بما ارتسم فيه بمثابة مرآة ثانية، وهذه المرآة العلمية غير الذاتية الثانية، تسمّى بالحضرة العمائية، وبظاهر العلم، ولها أسماء كثيرة، وهذ العلم لا يتعلق بما لا يتناهى لأن تعلقه بالمعلومات هو نفس وجودها فيه، الوجود العيني، وكل ما دخل الوجود فهو متناه. و المعلومات تابعة لهذا العلم، لأنها حكاية عنه، وظل له، فالعلم تابع للمعلومات في ثبوتها العدمي. و المعلومات تابعة للعلم في وجودها العيني، من غير تعدد للعلم ولا حدوث تعلق. فأما العلم الذاتي الإجمالي، فالذات هي العالمة من وجه،  وهي المعلومة من وجه وهي العلم من وجه. فأما كونها عالمة فهو أن الانكشاف حاصل لها، لا لشيء زايد عليها. ومن المعلوم: أنَّ حقيقة كل شيء أي ما يصح أن يعلم، هي نسبة معلوميته في علم الحق تعالى من كون علمه عين ذاته، فذاته أعطته العلم بمعلوماته، التي هي عين ذاته في مرتبة التعين، والعلم الأوّل، فعلمه بذاته هو عين علمه بمعلوماته من العالم، فليس علمه بذاته مغايراً لعلمه بالعالم، إذ ليس إلاَّ هو تعالى ـ. فلو قلنا: المعلوم تابع للعلم في هذه المرتبة، لزم تقدم العلم على الذات رتبة وفيه م لا يخفى. فإن قلت: الحق أخذ معلوماته عن وجود صدقت. لأن جميع معلوماته هي شؤون ذاته، ونسبه الذاتية. وإن قلت: الحق أخذ معلوماته عن عدم صدقت. لأن معلوماته قبل تعقل تعلق العلم الذاتي كانت معدومة في العلم والعين، ولها صلاحية التعين في العلم والعين، بمعنى أنها مستعدة لأن تظهر لها صور متعددة. وقد قال إمام العارفين قدوتن محيي الدين: «إن معلومات الحق تعالى أعطته العلم من نفسه» واعترض هذا القول العارف الكبير عبد الكريم الجيلي بما نصّه «لما رأى الإمام محي الدين الحق حكم للمعلومات بما اقتضته من نفسها، ظنَّ أن علم الحق مستفاد من اقتضاء المعلومات. وفاته أنها إنما اقتضت ما علمها عليه بالعلم الأصلي الكلي النفسي، قبل خلقه وإيجادها، فإنها ما تعيّنت في العلم الإلهي إلاَّ بما علمها، لا بما اقتضته ذواتها، ثم اقتضت ذواتها بعد في نفسها أموراً هي عين ما علمها عليه أولاً، فحكم لها ثانياً بما اقتضته، وما حكم لها إلاَّ بما علمها عليه» أ هـ.

وليس لمثلي أن يتتبّع سهو الأكابر، فإن كنت أيها الناظر ممن يعرف الحق عرفت أهله لا محالة. وإن كنت مقلداً فليس كلامي معك. وفي حقيقة الأمر لا اختلاف بين الشيخين عند من يعلم.

وفي أثناء كتابتي لهذا الموقف ألقي عليَّ في الواقعة قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَ يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: 84/ 20- 21].

وألهمت أن الوارد يشير إلى توبيخ من لا يصدق بكلام الإمام محي الدين. وإن كلامه من عنده تعالى ـ،  كما قال في الفتوحات: «ما وضعت كلمة إلاَّ بإلقاء روحانيّ في قلب كياني»، أو كما قال، فيجب الانقياد لكلامه، والخضوع لمعارفه، فإنه الوارث الكامل رضي الله عنه .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!