الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


120. الموقف العشرون بعد المائة

قال تعالى: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾[الأعراف: 7/ 107]. و[ الشعراء: 26/32].

اعلم: أن قول الحكماء وبعض المتكلمين: انقلاب الحقائق محال، والأعيان لا تنقلب، ونحو ذلك من عباراتهم، يريدون: أن الجماد لا ينقلب حيواناً مثلاً، لكون الجماد له حقيقة بها هو هو ، تغاير حقيقة الحيوان التي بها هو هو ، لا يصح. وكذا ت قسيمهم العالم إلى جواهر وأعراض، وزاد الحكماء المجردّات، لا يصح. إذ من المعلوم أن حقيقة الشيء ما به هو هو، وكل شيء في العالم أجناسه وأنواعه وأشخاصه إنما هو هو بحقيقة واحدة لا تتعدّد، ولا تتجزأ ولا تتبعّض، وهذه الحقيقة مع وحدتها هي المقوّمة لجميع أجناس العالم وأنواعه وأشخاصه وجزئياته، والعالم قائم بها، ولا يصح انقلاب الواحد ب الوحدة الحقيقية، لأنه لو انقلب انقلب على غيره، ولا غير. أو ينقلب إلى شيء، وذلك لا يعقل. فلو كان لكلّ فرد من أفراد العالم حقيقة تخصّه، وهو مركب من الحقيقة التي تخصّه والعرض لما صح انقلاب العصا ثعباناً مبينا، ولا نحو ذلك من معجزات الرسل (عليه السلام) كانقلاب النار برداً وسلاماً، ولا صحّ قول الحكماء بالشكل الغريب، فثبت أن العرش وما حوى، ممّا قسّموه إلى جواهر وأعراض، ومجردات، كلّه أعراض، وحقيقته التي بها هو هو، واحدة، وهي المقوّمة له، وهي لا تدرك على حدتها بشيء من الحواس. فوجودها في الخارج هو وجود الصورة، ولا هي داخلة في العالم ولا خارجة عنه. وأنَّ هذه الحقيقة تلبس أعراضاً وتخلعها، وتلبس أعراضاً، وهكذا على الدوام، كما لبست الأعراض التي تخص العصا ثم خلعتها، وليست الأعراض التي تخص الثعبان ثم خلعتها، وهكذا. وهي في حدّ ذاتها لا تتبدّل ولا تتغّير عن حقيقتها. فهي هي في كل حال، وهي حقيقة النار التي صارت برداً وسلاماً، فا لنار تحرق بصورتها ل بحقيقتها، قبلت تلك الحقيقة البرد، الذي هو عرض، كما قبلت الحرارة و الإحراق الذي هو عرض، فالحرارة لا تنقلب برودة، ولكن الحقيقة التي قامت بها الحرارة، لما انعدمت الحرارة، قبلت قيام البرودة بها، وهكذا في جميع الأعراض. فالعالم واحد بحقيقته التي بها هو هو، مختلف بأعراضه. ولا يمكن حمل قولهم "انقلاب الحقائق محال" على الأعيان الثابتة،  التي هي حقائق الأشياء في العلم، فإنها ما خرجت عن العلم إلى العين حتى يتصوّر فيه الانقلاب، ولا أنهم أرادوا بالحقائق أحكام الاستعدادات، التي ظهرت بها هذه الحقيقة الكلية المشتركة بين أفراد العالم جميعه، فإن هذا ليس من علومهم العقلية وكذ قولهم بالاستحالة أعني، قولهم: استحال الماء هواءً، و الهواء ناراً، ونحو ذلك، ل يصح، بل هو من نمط ما ذكرنا، من خلع الحقيقة الكليّة عرضاً ولبسها آخر مثله، أو ضدّه على الدوام، فإذا عرفت هذا عرفت ما يزهِّدك في علوم العقلاء من الحكماء و المتكلّمين، ويرغبك في علم العلماء بالله تعالى ـ، وهذه المسألة، وما شاكلها من الأوليات الضروريات عند القوم رضوان الله عليهم. وقد خطر لي إن كان في العمر سعة تأليف كتاب أجمع فيه ما وصل إليه علمي من غلطات الحكماء والمتكلمين، أسميه: «الإعلام بأغاليط الأعلام»، إن شاء الله تعالى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!