الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


116. الموقف السادس عشر عبد المائة

ورد في بعض الأخبار: ((ادعوني بألسنة لم تعصوني بها)).

اعلم أن لسان العبد وسمعه وبصره وسائر قواه الظاهرة والباطنة هي في نفس المر هوية الحق تعالى: «كنت سمعه وبصره ولسانه»، الحديث بطوله، سواء شعر العبد بذلك، أو لم يشعر، فإذا كان العبد غير شاعر بذلك فإنه ينسب اللسان والسمع والبصر وسائر القوى إليه، فينسب جميع الأفعال إلى نفسه، فإذا حصل للعبد كشف وشعور، نسب الأفعال كلها، الصادرة عن القوى في بادئ الرأي، التي هي هوية الحق في نفس الأمر، إلى الحق تعالى ـ، لا إلى نفسه، وحينئذٍ يكون داعياً باللسان الذي ما عصى الله به. وهذا اللسان هو الحق تعالى ـ، ماهو اللسان الذي يعصي به العبد ولا يتصوّر ذلك فإن العبد لا يعصي إلاَّ إذا كان في غير هذا المشهد، وهو الفرق الأول.

ولا يمكن أن يكون الأمر في الخبر للعموم، فإن العموم غير معصومين، ول أن يكون لخصوص المعصومين وهم الأنبياء، فإنه تحصيل للحاصل، ويصح أن يكون ما ذكرناه في معنى هذا الخبر مراداً في الخبر الوارد، أوحى الله إلى موسى (صلى الله عليه وسلم): ((اذكرني بلسان لم تعصني به))، والمعصية من موسى (عليه السلام) محال. فيكون أمره بالإحسان إلى أهل هذا المقام بالخصوص، فيشكرونه، فيكونون شاكرين ذاكرين له تعالى به، لعلمهم بالحقائق ومصادر الأمر، يعني بمعنى كن سبباً في ذكري بلسان غيرك ممن يذكرني بي. وإن كان له معنى آخر ذكره إمام العارفين شيخنا محي الدين، فإنه لا ينافي أن يكون هذا المعنى مراداً أيضاً، وكذا يصِحُّ أن يحمل على هذا المعنى، م ورد في صحيح البخاري وغيره: ((من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)).

فإنه ليس المراد من موافقة الملائكة إلاَّ التبرؤ من نسبة الأقوال والأفعال لغيره تعالى ـ، لا الموافقة في الزمان، فإنها لا أثر لها، سواء أكان مشهد المشاهد أن العبد فاعل بالله تعالى ـ، وهو الشهود الحاصل من قرب النوافل؛ أو كان مشهده أنه تعالى فاعل بالعبد، وهو المشهود الحاصل من قرب الفرائض.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!