الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


102. الموقف الثاني بعد المائة

قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً (صلى الله عليه وسلم) : ﴿إِنَّكَ لَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾[القصص: 28/ 56].﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[الشورى: 42/ 52]. ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ﴾[النمل: 20/ 81][الروم: 30/ 53].

اعلم: أنه لا تناقض بين هاتين الآيتين في نفس الأمر والحقيقة، وإِنم يظهر التناقض بينهما ببادئ الرأي، عند من لا يعرف مرتبة محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن عرف كيف هو (صلى الله عليه وسلم) من ربّه استراح وما اعتاض عليه مثل هذا. وتوضيحها: أنه (صلى الله عليه وسلم)كان حريصاً على هداية عباد الله تعالى ـ، وإيمانهم وانقيادهم لطريق نجاتهم كما أخبرنا تعالى عنه: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ (أي: عنادكم) حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾[التوبة: 9/ 128].

وقال له مشفقاً عليه: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ (أي قاتلها) أَلَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[الشعراء: 26/ 3].

﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُو بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾[الكهف: 18/ 6].

وهو (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحال متخلق بأخلاق ربّه، متحقق بها، فإنه ـ تعالى يحب الإيمان و الهداية لجميع عباده، كما قال: ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾[الزمر: 39/7].

أي لا يحبه لهم، وإنما يحب لهم الإيمان والهداية: ﴿ وَإِن تَشْكُرُو يَرْضَهُ لَكُمْ﴾[الزمر: 39/7].

فلا يفهم أنه (صلى الله عليه وسلم) أحبَّ غير ما أحبَّ الله تعالى، أو أراد غير ما أراده، فإنَّ المحبة غير الإرادة. وإذا كان الولي الذي هو قطرة من بحره الذي لا نهاية له، يصل عند نهاية كماله إلى أن تتّحد إرادته بإرادة الله تعالى، فلا يريد غير ما تعلقت به الإرادة القديمة، وإن كره ذلك شرعاً أو طبعاً، أو أحبَّ ضده شرعاً أو طبعاً، ولهذا يقول للشيء "بسم الله" بمعنى "كن فيكون" وما ذلك إلاّ لاتحاد إرادته بإرادة الحق تعالى وقالوا: حقيقة الكامل هو الذي لا يمتنع عن قدرته ممكن كما لا يمتنع عن قدرة خالقه محال، خزائن الأمور في حكمه ومفاتحها بيده، ينزّل بقدر ما يشاء؛ فكيف به (صلى الله عليه وسلم) الذي هو البرزخ بين الحق و الخلق، له وجه إلى الحق، ووجه إلى الخلق. بل هو الوجه الواحد فإنه لا ينقسم، وهو الحق المخلوق به، فهو على بصيرة من ربّه فيما يحب أو يريد، فهو المنفّذ لمر اده تعالى في عباده من ضلال وهدى، وكفر وإيمان، من حيث حقيقته. فهو مظهر العلم القديم والإرادة الأزلية، فلا إرادة له إلاَّ إرادة الحق تعالى وإرادته تعالى تابعة لع لمه، فلا يريد إلاَّ ما علم. و العلم ل يتبدّل ولا يتغّير، إذ لو جاز عليه ذلك ماكان علماً، وانقلاب الحقائق محال، فمعلومات الحق تعالى هي صور أسمائه. ومحال تغير الأسماء. فإنَّ ما ثبت للذات من التنزيه هو ثابت للأسماء. وقوله: ﴿وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾[البقرة: 2/ 272، القصص: 28/ 56].

هو إثبات لما عساه أن يتوهّم من وقوع شيء بغير إرادته تعالى وقدرته، وقد قال ذلك بعض الفرق الضالة، ونقول نحن: لا يريد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلاَّ ما أراد الله تعالى ، ولا يحب إلاَّ ما أحبه الله تعالى وهو الواسطة بين الحق و الخلق، ولا شيء إلاَّ وهو به منوط، ولولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، فهو مظهر مرتبة الصفات التي لها الفعل و التأثير.

وقوله: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: 16/ 125]. ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[القصص: 28/ 56]. ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[القلم: 68/ 7].

أي هو تعالى أعلم العالمين من رسول وملك، وولي بالمهتدين، أي الذين لهم استعداد الهداية وطلبها، من حيث حقائقهم، ولهم قبولها، إذ الحقائق العلميّة بمثابة الشخوص والأعيان الظاهرة ظلالها، وما كان في الشاخص من عوج،  أو استقامة، أو طول أو قصر، أو رقّة، أو غلظ، مثلاً يظهر في ظلّه ولابدَّ، فغيره تعالى إذا أطلعه الله تعالى على الاستعدادات، وهي الأعيان الثابتة في العلم، فهذا الغير كان من كان، ما علمها إلاَّ من علمه تعالى وهو تعالى علمها حيث لا تعيّن لها، لا في العلم ولا في العين، ولكن لها صلاحية التعيين في العلم والعين.

وقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[الشورى: 42/ 52].

صراط الله، هو صراط النجاة، ففي الآية إثبات لما قلنا: من نيابته (صلى الله عليه وسلم) في الهداية وغيرها، وخلافته الكبرى، وأنَّه الهادي من يشاء بهداية الله تعالى إذ حصول الهداية لكل مهتد، إمَّا بواسطة العقول أو واسطة الرسل (صلى الله عليه وسلم) وكلاهما بواسطته (صلى الله عليه وسلم) فإنه النور الأصلي، الذي منه كلّ نور، وحقيقة كلّ حقيقة، فقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾[القصص: 20/ 56].

من حيث أنك غير وسوى، وأنك رسول مخلوق، كما هو رأي المحجوبين، وفي نظر هم، وهو نظر إبليس حيث قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) اسمك الهادي، وليس لك من الهداية شيء، و اسمه هو الأبعد المضلّ وليس له في الضلالة شيء، وذلك لجهله عدو الله بحقيقة محمد، كما جهل حقيقة أبيه آدم.

وقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[الشورى: 42/ 52].

صراط الله من حيث حقيقتك، فإنك التعيّن الأول، والمظهر الأول، و الخليفة المفوّض، فأثبت له ما نفاه عنه، لأنَّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) ليس له وجود مع الحق تعالى ـ، وإنَّما هو ظهور الحق تعالى لنفسه بنفسه، فهو كناية عن علم الحق تعالى بنفسه. فهاتان الآيتان مرتبتان في المعنى، وإن تباعدتا في رسم المصحف الكريم، ومساقها: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾[القصص : 56]. ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[الشورى: 42/ 52].

كما قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[الأنفال: 9/ 17].

نفى الرمي عن محمد، ثم أثبت الرمي لمحمد، ثم أثبت الرمي الذي أثبته لمحمد إلى الله تعالى فكانت قوّة الكلام أن الرامي هو الله تعالى ـ، وهو المدعّو بمحمد تعالى عند أهل الحجاب. وهنا نفى الهداية عن محمد، ثم أثبت الهداية لمحمد، ثم أثبت الهداية التي أثبتها لمحمد إلى الله تعالى فكانت قوة الكلام: الهادي هو الله تعالى وهو المدعو بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولا يفهم عنّا إلاَّ أهل طريقتنا، إذ لا يفهم عنك إلاَّ من أشرق فيه ما أشرق فيك. وتقول العامة: لا يفهم كلام الأخرس إلاَّ أمّه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!