المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف
للأمير عبد القادر الحسني الجزائري
![]() |
![]() |
1.الموقف الأول
قال الله تعالى:﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب-21/21].هذه الآية الكريمة تلقيتها تلقياً غيبياً روحانياً، فإن الله تعالى قد عوّدني، انَّه مهما أراد أن يأمرني، أو ينهاني، أو يبشرني، أو يحذرني، أو يعلمني علماً، أو يفتيني في أمر استفتيته فيه، وإلاَّ ويأخذني منّي مع بقاء الرسم، ثم يلقي إليَّ ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردّني إليَّ، فأرجع بالآية قرير العين، ملآن اليدين، ثم يلهمني ما أراد بالآية، وأتلقى الآية من غير حذف ولا صوت ولا جهة، وقد تلقيت والمنة لله تعالى، نحو النصف من القرآن بهذا الطريق. وأرجو من كرم الله تعالى أن لا أموت حتى أستظهر القرآن كله. فأنا بفضل الله محفوظ الوارد، في المصادر والموارد، ليس للشيطان عليَّ سلطان، إذ كلام الله تعالى لا يأتي به شيطان، «ما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وم يستطيعون»، وكلّ آية تكلمت عليها إنما تلقيتها بهذا الطريق إلاَّ ما ندر. وأهل طريقنا رضي الله عنهم ما ادّعوا الإتيان بشيء في الدين جديد، وإنّما ادعو الفهم الجديد في الدين التليد وساعدهم الخبر المروي أنه: لا يكمل فقه الرجل حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة.
والخبر الآخر: أن للقرآن ظهراً وبطنا، وحداً ومطلعا، رواه ابن حبّان في صحيحه، والأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «ما حرك طائر جناحيه في السماء إلاَّ وجدنا ذلك في كتاب الله».
ودعاؤه صلَّى الله عليه وسلم لابن عباس: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ وعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)).
وفي الصحيح عن علي كرم الله وجهه أنه قيل له: هل خصَّكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم أهل البيت، بشيء دون الناس؟! يعني من العلم، فقال: "لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلاَّ أن يكون فهماً أعطيه رجل في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة". وما في هذه المواقف من هذا القبيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ومن أراد أن يبلو صدقهم فليسلك طريقهم، وإنَّ القوم رضي الله عنهم ما أبطلوا الظواهر، ولا قالوا ليس المراد من الآية إلاَّ ما فهمنا. بل أقرَّوا الظواهر على ما يعطيه ظاهرها. وقالوا: فهمنا شيئاً زائداً على ما يعطيه ظاهرها. ومن المعلوم أن كلام الحق تعالى على وفق علمه، وعلمه تعالى محيط ومتعلق بالواجب والممكن والمستحيل؛ فغير بعيد أن يكون مراد الحق تعالى من الآية كل ما فهمه أهل الظاهر وأهل الباطن ومالم يفهموه. ولهذا ترى كلما جاء أحد ممّن فتح الله بصيرته، ونور سريرته، يستخرج من الآية والحديث معنى ما اهتدى إليه من قبله، وهكذا إلى قيام الساعة. وما ذاك إلاَّ لاتساع علم الحق تعالى فإنَّه معلّمهم ومرشدهم، فنقول في هذه الآية مع قلّة حروفها من الإعجاز ما لا يعبّر عنه بحقيقة ولا مجاز. فهي بحر زاخر، ماله أول ولا آخر، فكل ما ألفه المؤلفون من أحكام الدين والدنيا داخل تحت إشارتها بلا ثنيا.
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
أي بالنظر إلى معاملة الحق تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّه أعطاه ومنعه، وضرّه ونفعه، وسلّط الأعداء عليه، وجعل الحرب دولاً، تارة له وتارة عليه، وقبضه وبسطه أخرى، وأجاب دعاءه وردّه أخرى، تارة يقول له:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾[الفتح : 26 10].
﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾[النساء: 5/ 80].، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[آل عمران: 3/ 31]، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[الأنفال: 9/ 17].
فإنَّ قوة الكلام تعطي أن المراد: ما أنت إذ أنت، ولكن أنت الله! ومرّة يقول له:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾[القصص: 20/ 56]، ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ﴾[آل عمران: 4/ 128]، ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾[النمل: 20/ 80]. ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ﴾[النمل: 20/ 81]﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ﴾[الزمر: 23/ 18]، ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾[ق: 26/45].
فأنزله تارة منزلة نفسه العليّة، وتارة منزلة العبد الحقير، ويدخل تحت هذا القسم من العلم بالله تعالى وصفاته وغناه عن مخلوقاته وافتقارهم إليه، ومن العلم بالرسل عليهم الصلاة والسلام وما يجب لهم ويجوز ويستحيل في حقهم، وحكمة الله في مخلوقاته، وترتيب الآخرة على الدنيا، مالا يحصى ولا يستقصى من العلوم.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
أي بالنظر إلى معاملة الحق له صلى الله عليه وسلم فإنهم بين مصدّق ومكذّب، ومحبّ ومبغض، وآذوه صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل وباشروه بكل مكروه دون القتل، شجّ وجهه الشريف، وكسرت رباعيته، وتحزّبت عليه الأحزاب، وأسلمه الحميم، وما زاده ذلك إلاَّ بصيرة في أمره، وشدّة في حاله. ويدخل تحت هذا القسم من شمائله صلى الله عليه وسلم ـ، وأخباره وأخبار الأنبياء عليهم السلام وأخبار العارفين بالله، وماذا لقوا من المكذبين لهم.... مالا يدركه ضبط، ولا يبلغه ربط.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
أي بالنظر إلى معاملته صلى الله عليه وسلم للخلق، من محبتهم، وإرادة الخير لهم، حتى قال له ربه:
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[الشعراء: 19/ 3].
والصبر عليهم، ورؤية وجه الحق تعالى فيهم، ظلموه فعفا، وحرموه فأعطى، وجهلوا عليه فاحتمل، وقطعوه فوصل، وقال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون)). دفع السيئة بالحسنة، وقابل كل مكروه بالأضداد المستحسنة، تخلقاً بالأخلاق الإلهية وتحققاً بالأسماء الرحمانية، فإنه لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله. ويدخل تحت هذا القسم من مكارم الأخلاق وحسن الشمائل، وعلوم السياسة الدين والدنيا، التي بها نظام العالم وعمارته، وسعادة السعيد، مالا تضبطه الأقلام، وتكل دونه الأوهام.
فيجب على المريد، بل والعارف أن يجعل هذه الآية قبلته في كلّ مكان، ومشهده في كلّ زمان، فإن أحواله لا تخرج عن هذه الأربع حالات، ولعلها هي الصراط المستقيم الذي قعد عليه الشيطان لابن آدم والأربع الجهات. فإنه حلف:
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[الأعراف: 8/ 16 و 17].
فمن قال بما دلت عليه الآية الكريمة فهو من الشاكرين، وليس عليه سلطان للشياطين.
![]() |
![]() |





