الفتوحات المكية

وصايا الشيخ الأكبر

وهو الباب 560 الذي ختم به الشيخ محي الدين موسوعة الفتوحات المكية بمجموعة وصايا جامعة

وهو يمثل السفرين السادس والثلاثين والسابع والثلاثين وفق مخطوطة قونية


(وصية)

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

(وصية)

(وصية)

اعتبار لأحد الأبرار بلغني أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة فقال له بعض أصحابه يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها وتركها فقال نعم ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز أ لا تسألني ما صنعت بالأحبة قلت بلى قال حرقت الأكفان ومزقت الأبدان ومصصت الدم وأكلت اللحم قال أ لا تسألني ما صنعت بالأوصال قلت بلى قال نزعت الكفين من الذراعين والذراعين من العضدين والعضدين من الكتفين والوركين والفخذين والفخذين من الركبتين والركبتين من الساقين والساقين من القدمين ثم بكى عمر ثم قال ألا إن الدنيا بقاؤها قليل وعزيزها ذليل وغنيها فقير وشابها يهرم وحيها يموت فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها فالمغرور من اغتر بها أين سكانها الذين بنوا مدائنها وشققوا أنهارها وغرسوا أشجارها وأقاموا فيها أياما يسيرة غرتهم بصحتهم فاغتروا وبنشاطهم فركبوا المعاصي أنهم كانوا والله في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع عليه محسودين على جمعه ما ذا صنع التراب بأبدانهم والرمل بأجسادهم والديدان بعظامهم وأوصالهم كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة وفرش منضودة بين خدم يخدمون وأهل يكرمون وجيران‏

يعضدون فإذا مررت فنادهم إن كنت مناديا ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم واسأل غنيهم ما بقي من غناه واسأل فقيرهم ما بقي من فقره وأسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون وأسألهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان محت الألوان وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه ومحت المحاسن وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء ومزقت الأشلاء وأين حجابهم وقبابهم وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم ومكنونهم والله ما فرشوا فراشا ولا وضعوا هناك متكأ ولا غرسوا لهم شجرا ولا أنزلوهم من اللحد قرارا أ ليسوا في منازل الخلوات والفلوات أ ليس الليل والنهار عليهم سواء أ ليس هم في مدلهمة ظلماء قد حيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوههم بالية وأجساد لهم من أعناقهم نائية وأوصالهم متمزقة وقد سألت الحدقات على الوجنات وامتلأت الأفواه دما وصديدا ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما قد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضايق قد تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم وتوزعت الورثة ديارهم وتراثهم فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناضر فيه المتنعم بلذته يا ساكن القبر غدا ما الذي غرك من الدنيا هل تعلم أنك تبقي أو تبقي لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضرة ينعها وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك وأين كسوتك لصيفك وشتائك أ ما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه دخلا وهو يرشح عرقا ويتلمظ عطشا يتقلب في سكرات الموت وغمراته جاء الأمر من السماء وجاء غالب القدر والقضاء جاء من الأمر الأجل ما لا يمتنع منه هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله يا مكفن الميت وحامله يا مخليه في القبر وراجعا عنه ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى ليت شعري بأي خديك تبدي البلى وأي عينيك إذن سألا يا مجاور الهلكات صرت في محل الموتى ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي ثم تمثل‏

تسر بما يفنى وتشغل بالمنى *** كما اغتر باللذات في النوم حالم‏

نهارك يا مغرور سهو وغفلة *** وليلك نوم والردي لك لازم‏

وتعمل شيئا سوف تكره غيه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم‏

ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة ومات رضي الله عنه ومن نظمنا في ذلك‏

شاب فوداي وشب الأمل *** ومضى العمر وجاء الأجل‏

عسكر الموتى لنا منتظر *** فإذا صرنا إليهم رحلوا

ليت شعري ليت شعري هل دروا *** إنني بعدهم مشتغل‏

في فنون اللهو أفنى طربا *** غافل عماله انتقل‏

ولنا في هذا المعنى أيضا

ضمت لنا أرامنا الآراما *** فكان ذاك العيش كان مناما

يا واقفين على القبور تعجبوا *** من قائمين كيف صاروا نياما

تحت التراب موسدين أكفهم *** قد عاينوا الحسنات والإجراما

لا يوقظون فيخبرون بما رأوا *** لا بد من يوم تكون قياما

ورأيت على قبر أبياتا وهي على لسان صاحبه‏

أيها الناس كان لي أمل *** قصر بي عن بلوغه الأجل‏

فليتق الله ربه رجل *** أمكنه في حياته العمل‏

ما أنا وحدي نقلت حيث تروا *** كل إلى مثله سينتقل‏

ورأيت أيضا مكتوبا على قبر

يا من بدنياه اشتغل *** وغره طول الأمل‏

ولم يزل في غفلة *** حتى دنا منه الأجل‏

الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل‏

ورأيت مكتوبا على قبر أم ابن البسيلي وكان ابنها من أصدقائي وقد علاه وشيده وأنفق على بنائه مالا كثيرا فكتب شخص من أصحابنا أبياتا عليه لبعضهم يخبر عن صورة الحال وهي‏

أرى أهل القصور إذا توفوا *** بنوا تلك المقابر بالصخور

أبوا إلا مباهاة وفخرا *** على الفقراء حتى في القبور

فإن يكن التفاضل في ذراها *** فإن العدل منها في القعور

لعمر أبيهم لو أبرزوهم *** لما علموا الغني من الفقير

ولا عرفوا العبيد من الموالي *** ولا عرفوا الإناث من الذكور

ولا البدن الملبس ثوب صوف *** ولا البدن المنعم في الحرير

إذا ما مات هذا ثم هذا *** فما فضل الغني على الفقير

وكان على قبر مكتوبا بمدينة سلا منقطع التراب بيتان على لسان صاحب القبر

ولقد نظرت كما نظرت *** ولقد نظرت فما اعتبرت‏

فانظر لنفسك سيدي *** قبل الحصول كما حصلت‏

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!