ثم قال في الذين هم عند ربهم ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ وَ هُمْ لاٰ يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت:38] أي لا يملون كل ذلك يدل على أن العالم كله في مقام الشهود و العبادة إلا كل مخلوق له قوة التفكر و ليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية و الجانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم فإن هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له و السجود فأعضاء البدن كلها بتسبيحه ناطقة أ لا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود و الأيدي و الأرجل و الألسنة و السمع و البصر و جميع القوي ﴿فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر:12] و هذا كله من حكم حبه إيانا لنفسه فمن و في شكره و من لم يوف عاقبه فنفسه أحب و تعظيمه و الثناء عليه أحب و أما حبه إيانا لنا فإنه عرفنا بمصالحنا دنيا و آخرة و نصب لنا الأدلة على معرفته حتى نعلمه و لا نجهله ثم إنه رزقنا و أنعم علينا مع تفريطنا بعد علمنا به و إقامة الدليل عندنا على أن كل نعمة نتقلب فيها إنما ذلك من خلقه و راجعة إليه و إنه ما أوجدها إلا من أجلنا لننعم بها و نقيم بذلك و تركنا نرأس و نربع ثم إنه بعد هذا الإحسان التام لم نشكره و العقل يقضي بشكر المنعم و قد علمنا أنه لا محسن إلا اللّٰه فمن إحسانه أن بعث إلينا رسولا من عنده معلما و مؤدبا فعلمنا بما لنا في نفسه فشرع لنا الطريق الموصل إلى سعادتنا و أبانه و حذرنا من الأمور المردية و اجتناب سفساف الأخلاق و مذامها ثم أقام الدلالة على صدقه عندنا فجاء بالبينات و قذف في قلوبنا نور الايمان و حببه إلينا و زينه في قلوبنا و كره إلينا ﴿اَلْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيٰانَ﴾ [الحجرات:7] فآمنا و صدقنا ثم من علينا بالتوفيق فاستعملنا في محابه و مراضيه فعلمنا أنه لو لا ما أحبنا ما كان شيء من هذا كله ثم إن رحمته سبقت غضبه و إن شقي من شقي فلا بد من شمول الرحمة و العناية و المحبة الأصلية التي تؤثر في العواقب و لما سبقت المحبة و حقت الكلمة و عمت الرحمة و كانت الدار الدنيا دار امتزاج و حجاب بما قدره العزيز العليم خلق الآخرة و نقلنا إليها و هي دار لا تقبل الدعاوي الكاذبة فأقر الجميع بربوبيته هناك كما أقروا بربوبيته في قبضة الذر من ظهر آدم فكنا في الدار الدنيا وسطا بين طرفين طرفي توحيد و إقرار و في الوسط وقع الشرك مع ثبوت الوجود فضعف الوسط و لذلك قالوا ﴿مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اللّٰهِ زُلْفىٰ﴾ [الزمر:3] فنسبوا العظمة و الكبرياء إلى اللّٰه تعالى في شركهم ثم أخبر تعالى أنه طبع على قلب كل من ظهر في ظاهر لقومه بصفة الكبرياء و الجبروت و ما جعل ذلك في قلوبهم بسبب طابع العناية فهم عند نفوسهم بما يجدونه من العلم الضروري أذلاء صاغرين لذلك الطابع فما دخل الكبرياء على اللّٰه قلب مخلوق أصلا و إن ظهرت منه صفات الكبرياء فثوب ظاهر لا بطانة له منه و هذا كله من رحمته و محبته في خلقه ليكون المال إلى السعادة فلما ضعف الوسط و تقوى الطرفان غلب في آخر الأمر و امتلأت الدار إن و جعل في كل واحدة منهما نعيما لأهلها يتنعمون به بعد ما طهرهم اللّٰه بما نالوه من العذاب لينالوا النعيم على طهارة أ لا ترى المقتول قودا كيف يطهره ذلك القتل من ظلم القتل الذي قتل من قتل به فالسيف محاء و كذلك إقامة الحدود في الدنيا كلها تطهير للمؤمنين حتى قرصة البرغوث و الشوكة يشاكها و ثم طائفة أخرى تقام عليهم حدود الآخرة في النار ليتطهروا ثم يرحمون في النار لما سبق من عناية المحبة و إن لم تخرجوا من النار فحب اللّٰه عباده لا يتصف بالبدء و لا بالغاية فإنه لا يقبل الحوادث و لا العوارض لكن عين محبته لعباده عين مبدأ كونهم متقدميهم و متأخريهم إلى ما لا نهاية له فنسبة حب اللّٰه لهم نسبة كينونته كانت معهم أينما كانوا في حال عدمهم و في حال وجودهم فكما هو معهم في حال وجودهم هو معهم في حال عدمهم لأنهم معلومون له مشاهد لهم محب فيهم لم يزل و لا يزال لم يتجدد عليه حكم لم يكن عليه بل لم يزل محبا خلقه كما لم يزل عالما بهم «فقوله فأحببت أن أعرف»
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية