المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة القصص: [تفسير البغوي]
كتاب معالم التنزيل، للحسين بن مسعود البغوي، المحدّث والفقيه الشافعي، توفي (510 هـ). وهو تفسير متوسط نقل فيه مصنفه الصحيح من تفسير الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولا يذكر الضعيف.
![]() |
![]() |
![]() |
سورة القصص | ||
![]() |
مكية إلا قوله - عز وجل - : ( الذين آتيناهم الكتاب ) إلى قوله : ( لا نبتغي الجاهلين ) وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة ، وهي قوله - عز وجل - : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) .
( طسم )
"تلك آيات الكتاب المبين".
( نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق ) بالصدق ( لقوم يؤمنون ) يصدقون بالقرآن .
( إن فرعون علا ) استكبر وتجبر وتعظم ( في الأرض ) أرض مصر ( وجعل أهلها شيعا ) فرقا وأصنافا في الخدمة والتسخير ( يستضعف طائفة منهم ) أراد بالطائفة : بني إسرائيل ثم فسر الاستضعاف فقال : ( يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ) سمى هذا استضعافا ؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم ( إنه كان من المفسدين )
( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ) يعني : بني إسرائيل ، ( ونجعلهم أئمة ) قادة في الخير يقتدى بهم . وقال قتادة : ولاة وملوكا ، دليله : قوله - عز وجل - : " وجعلكم ملوكا " ( المائدة - 20 ) . وقال مجاهد : دعاة إلى الخير . ( ونجعلهم الوارثين ) يعني : أملاك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم .
( ونمكن لهم في الأرض ) نوطن لهم في أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم مكانا يستقرون فيه ، ( ونري فرعون وهامان وجنودهما ) قرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي : " ويرى " بالياء وفتحها ، ( فرعون وهامان وجنودهما ) مرفوعات على أن الفعل لهم ، وقرأ الآخرون بالنون وضمها ، وكسر الراء ، ونصب الياء ونصب ما بعده بوقوع الفعل عليه ، ( منهم ما كانوا يحذرون ) والحذر هو التوقي من الضرر ، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل منه ، فأراهم الله ما كانوا يحذرون .
( وأوحينا إلى أم موسى ) وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوخابذ بنت لاوي بن يعقوب ، ( أن أرضعيه ) واختلفوا في مدة الرضاع ، قيل : ثمانية أشهر . وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها ، وهو لا يبكي ولا يتحرك ، ( فإذا خفت عليه ) يعني : من الذبح ، ( فألقيه في اليم ) واليم : البحر ، وأراد هاهنا النيل ، ( ولا تخافي ) قيل : لا تخافي عليه من الغرق ، وقيل : من الضيعة ، ( ولا تحزني ) على فراقه ، ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال . إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر ، استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم على يد نبيه . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما ضرب بها الطلق أرسلت إليها فقالت : قد نزل بي ما نزل ، فلينفعني حبك إياي اليوم ، قالت : فعالجت قبالتها ، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى ، فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها . ثم قالت لها : يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن رأيي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون ، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع .
قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا لها : ما أدخل عليك القابلة ؟ قالت : هي مصافية لي فدخلت علي زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي ؟ قالت لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - النار عليه بردا وسلاما ، فاحتملته . قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في نفسها أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في اليم وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتا صغيرا ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت ؟ قالت : ابن لي أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب . قال ولم تقل : أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى ، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام ، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول . فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق - أيضا - يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئا ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد يهوي فيه حيران ، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيث ما كان ، فعرف الله منه الصدق فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدا ، فقال : يا رب دلني على هذا العبد الصالح ، فدله الله عليه ، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه ، وعلم أن ذلك من الله - عز وجل - . وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس ، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتشن النساء تفتيشا لم يفتشن قبل ذلك مثله . وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها ، ولم يتغير لونها ، ولم يظهر لبنها ، وكانت القوابل لا تتعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، فأوحى الله إليها " أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه " الآية ، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها ، لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت تابوتا له مطبقا ثم ألقته في البحر ليلا .
قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها ، فقالوا له : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ايتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبنا ، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية ، وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله ، فهم فرعون بقتله . قالت آسية : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها " . فقيل لآسية سميه فقالت : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء ، وسي هو الشجر فذلك قوله - عز وجل - : ( فالتقطه آل فرعون )
( فالتقطه آل فرعون ) والالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب ، ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) وهذه اللام تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة ؛ لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك . قرأ حمزة والكسائي : " حزنا " بضم الحاء وسكون الزاي ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي ، وهما لغتان ، ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) عاصين . آثمين .
قوله تعالى : ( وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك ) قال وهب : لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك ، وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح ؟ وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم . قالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي وذلك ، ( لا تقتلوه ) وروي أنها قالت له : إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ) أن هلاكهم على يديه ، فاستحياه فرعون ، وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته : عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه . قال وهب قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية : عسى أن ينفعنا لنفعه الله ، ولكنه أبى ؛ للشقاء الذي كتبه الله عليه .
وقوله تعالى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ) أي : خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه ، وهذا قول أكثر المفسرين . وقال الحسن : " فارغا " أي : ناسيا للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن ، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان فقال : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر ، وأغرقته ، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت : إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه ، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها . وقال أبو عبيدة : " فارغا " أي : فارغا من الحزن ؛ لعلمها بصدق وعد الله تعالى . وأنكر القتيبي هذا ، وقال : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : " إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " ؟ والأول أصح .
قول الله - عز وجل - : ( إن كادت لتبدي به ) قيل الهاء في " به " راجعة إلى موسى ، أي : كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها . وقال عكرمة عن ابن عباس : كادت تقول : وابناه . وقال مقاتل : لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها . وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها ، وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب : موسى بن فرعون ، فشق عليها فكادت تقول : بل هو ابني . وقال بعضهم : الهاء عائدة إلى الوحي أي : كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يرده إليها . ( لولا أن ربطنا على قلبها ) بالعصمة والصبر والتثبيت ، ( لتكون من المؤمنين ) المصدقين لوعد الله حين قال لها : ( إنا رادوه إليك )
( وقالت لأخته ) أي : لمريم أخت موسى : ( قصيه ) اتبعي أثره حتى تعلمي خبره ، ( فبصرت به عن جنب ) أي : عن بعد ، وفي القصة أنها كانت تمشي جانبا وتنظر اختلاسا لترى أنها لا تنظره ، ( وهم لا يشعرون ) أنها أخته وأنها ترقبه . قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة ، فكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها فذلك قوله - عز وجل - : ( وحرمنا عليه المراضع )
( وحرمنا عليه المراضع ) والمراد من التحريم المنع ، والمراضع : جمع المرضع ، ( من قبل ) أي : من قبل مجيء أم موسى ، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم : هل أدلكم ؟ وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا ويصيح وهم في طلب مرضعة له .
( فقالت ) يعني أخت موسى : ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه ) أي : يضمنونه ( لكم ) ويرضعونه ، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيرا ترضعه ، ( وهم له ناصحون ) والنصح ضد الغش ، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد . قالوا : نعم فأتينا بها . قال ابن جريج والسدي : لما قالت أخت موسى : " وهم له ناصحون " أخذوها وقالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله . فقالت : ما أعرفه ، وقلت : هم للملك ناصحون . وقيل : إنها قالت : إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به . وقيل إنها لما قالت : " هل أدلكم على أهل بيت " قالوا لها : من ؟ قالت : أمي قالوا : ولأمك ابن ؟ قالت : نعم هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها . قالوا : صدقت ، فأتينا بها ، فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها ، وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها ، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا . قال السدي : كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى : ( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها )
( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ) برد موسى إليها ، ( ولا تحزن ) أي : ولئلا تحزن . ( ولتعلم أن وعد الله حق ) برده إليها . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن الله وعدها رده إليها .
( ولما بلغ أشده ) قال الكلبي : الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة . قال مجاهد وغيره : ثلاث وثلاثون سنة . ( واستوى ) أي : بلغ أربعين سنة ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقيل : استوى انتهى شبابه ( آتيناه حكما وعلما ) أي : الفقه والعقل والعلم في الدين ، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا ، ( وكذلك نجزي المحسنين )
قوله تعالى : ( ودخل المدينة ) يعني : دخل موسى المدينة . قال السدي : هي مدينة " منف " من أرض مصر . وقال مقاتل : كانت قرية " حابين " على رأس فرسخين من مصر . وقيل : مدينة " عين الشمس " ، ( على حين غفلة من أهلها ) وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة . وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء . واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت . قال السدي : وذلك أن موسى - عليه السلام - كان يسمى : ابن فرعون ، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوما وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض " منف " فدخلها نصف النهار ، وليس في طرفها أحد ، فذلك قوله - عز وجل - : ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ) قال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا ، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها . وقال ابن زيد : لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره ، فأراد فرعون قتله ، قالت امرأته : هو صغير ، فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها يعني : عن ذكر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به .
وروي عن علي في قوله : " حين غفلة " كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم . ( فوجد فيها رجلين يقتتلان ) يختصمان ويتنازعان ، ( هذا من شيعته ) بني إسرائيل ، ( وهذا من عدوه ) من القبط . قيل : الذي كان من شيعته : السامري . والذي من عدوه من القبط قيل : طباخ فرعون اسمه فليثون . وقيل : " هذا من شيعته . وهذا من عدوه " أي : هذا مؤمن وهذا كافر ، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع ، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم ، فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون ، ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، والاستغاثة : طلب الغوث ، فغضب موسى واشتد غضبه ; لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى ، فقال للفرعوني : خل سبيله ، فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، فنازعه . فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك ، وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش ، ( فوكزه موسى ) وقرأ ابن مسعود : " فلكزه موسى " ، ومعناهما واحد ، وهو الضرب بجمع الكف . وقيل : " الوكز " الضرب في الصدر " واللكز " في الظهر . وقال الفراء : معناهما واحد ، وهو الدفع . قال أبو عبيدة : الوكز الدفع بأطراف الأصابع ، وفي بعض التفاسير : عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره ، ( فقضى عليه ) أي : فقتله وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه . فندم موسى - عليه السلام - ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل ، ( قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) أي : بين الضلالة .
( قال رب إني ظلمت نفسي ) بقتل القبطي من غير أمر ، ( فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم )
( قال رب بما أنعمت علي ) بالمغفرة ، ( فلن أكون ظهيرا ) عونا ، ( للمجرمين ) قال ابن عباس : للكافرين . وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا ، وهو قول مقاتل . قال قتادة : لن أعين بعدها على خطيئة ، قال ابن عباس : لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني .
( فأصبح في المدينة ) أي : في المدينة التي قتل فيها القبطي ( خائفا ) من قتله القبطي ، ( يترقب ) ينتظر سوءا . والترقب : انتظار المكروه . قال الكلبي : ينتظر متى يؤخذ به ، ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) يستغيثه ويصيح به من بعد . قال ابن عباس : أتي فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا ، فقال : ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه ، فلا يستقيم أن يقضي بغير بينة ، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني فصادف موسى ، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ، ( قال له موسى ) للإسرائيلي : ( إنك لغوي مبين ) ظاهر الغواية قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه ؟ وقيل : إنما قال موسى للفرعوني : إنك لغوي مبين بظلمك ، والأول أصوب ، وعليه الأكثرون أنه قال ذلك للإسرائيلي .
( فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ) وذلك أن موسى أدركته الرقة بالإسرائيلي فمد يده ليبطش بالفرعوني ، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه وسمع قوله : إنك لغوي مبين ، ( قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد ) ما تريد ، ( إلا أن تكون جبارا في الأرض ) بالقتل ظلما ، ( وما تريد أن تكون من المصلحين ) فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني ، فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك ، وأمر فرعون بقتل موسى . قال ابن عباس : فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم .
( وجاء رجل ) من شيعة موسى ، ( من أقصى المدينة ) أي : من آخرها ، قال أكثر أهل التأويل : اسمه " حزبيل " مؤمن من آل فرعون ، وقيل : اسمه " شمعون " ، وقيل : " شمعان " ، ( يسعى ) أي : يسرع في مشيه ، فأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقا آخر ، ( قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ) يعني : أشراف قوم فرعون يتشاورون فيك ، ( ليقتلوك ) قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، ( فاخرج ) من المدينة ، ( إني لك من الناصحين ) في الأمر لك بالخروج .
( فخرج منها ) موسى ، ( خائفا يترقب ) أي : ينتظر الطلب ، ( قال رب نجني من القوم الظالمين ) الكافرين ، وفي القصة : أن فرعون بعث في طلبه حين أخبر بهربه فقال اركبوا ثنيات الطريق فإنه لا يعرف كيف الطريق .
( ولما توجه تلقاء مدين ) أي : قصد نحوها ماضيا إليها ، يقال : داره تلقاء دار فلان ، إذا كانت في محاذاتها ، وأصله من اللقاء ، قال الزجاج : يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها ، ومدين هو مدين بن إبراهيم ، سميت البلدة باسمه ، وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد ، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر ، ( قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) أي : قصد الطريق إلى مدين ، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها قبل ، فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين . قال المفسرون : خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل ، حتى يرى خضرته في بطنه ، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه . قال ابن عباس : وهو أول ابتلاء من الله - عز وجل - لموسى عليه السلام .
( ولما ورد ماء مدين ) وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ، ( وجد عليه أمة ) جماعة ( من الناس يسقون ) مواشيهم ، ( ووجد من دونهم ) يعني : سوى الجماعة ، ( امرأتين تذودان ) يعني : تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهم البئر ، قال الحسن : تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما . وقيل : تمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب . والقول الأول أصوبها ، لما بعده ، وهو قوله : ( قال ) يعني : موسى للمرأتين ، ( ما خطبكما ) ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ؟ ( قالتا لا نسقي ) أغنامنا ، ( حتى يصدر الرعاء ) قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " يصدر " بفتح الياء وضم الدال على اللزوم ، أي : حتى يرجع الرعاء عن الماء ، وقرأ الآخرون : بضم الياء وكسر الدال ، أي : حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء ، و " الرعاء " جمع راع ، مثل : تاجر وتجار . ومعنى الآية : لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء ، لأنا امرأتان لا نطيق أن نسقي ، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض .
( وأبونا شيخ كبير ) لا يقدر أن يسقي مواشيه ، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم . واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد ، والضحاك ، والسدي والحسن : هو شعيب النبي عليه السلام . وقال وهب بن منبه ، وسعيد بن جبير : هو يثرون بن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره ، فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب قالوا : فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس .
وقال ابن إسحاق : إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر ، فسقى غنم المرأتين . ويروى : أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر ، فجاء موسى ورفع الحجر وحده ، وسقى غنم المرأتين . ويقال : إنه نزع ذنوبا واحدا ودعا فيه بالبركة ، فروى منه جميع الغنم ، فذلك قوله : ( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل )
( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ) ظل شجرة ، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع ، ( فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير ) طعام ، ( فقير ) قال أهل اللغة اللام بمعنى " إلى " ، يقال : هو فقير له ، وفقير إليه ، يقول : إني لما أنزلت إلي من خير ، أي : طعام ، فقير محتاج ، كان يطلب الطعام لجوعه . قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه . قال الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شق تمرة . وقال مجاهد : ما سأله إلا الخبز . قالوا : فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان ، قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي .
قال الله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، ( قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) قال أبو حازم سلمة بن دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ، ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ، ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما ، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى وأكل .
( فلما جاءه وقص عليه القصص ) يعني : أمره أجمع من قتله القبطي وقصد فرعون قتله ، ( قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) يعني : فرعون وقومه ، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين .
( قالت إحداهما يا أبت استأجره ) اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا ، ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) يعني : خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة ، فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته : فإنه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة . وقيل : إلا أربعون رجلا وأما أمانته : فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك .
( قال ) شعيب عند ذلك : ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) واسمها " صفورة " و " ليا " في قول شعيب الجبائي ، وقال ابن إسحاق : " صفورة " و " شرقا " وقال غيرهما : الكبرى " صفراء " والصغرى " صفيراء " . وقيل زوجه الكبرى . وذهب أكثرهم إلى أنه زوجه الصغرى منهما واسمها " صفورة " ، وهي التي ذهبت لطلب موسى ، ( على أن تأجرني ثماني حجج ) يعني : أن تكون أجيرا لي ثمان سنين ، قال الفراء : يعني : تجعل ثوابي من تزويجها أن ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : آجرك الله بأجرك أي : أثابك ، والحجج : السنون ، واحدتها حجة ، ( فإن أتممت عشرا فمن عندك ) أي : إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ، ليس بواجب عليك ، ( وما أريد أن أشق عليك ) أي : ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) قال عمر : يعني : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت .
( قال ) موسى ، ( ذلك بيني وبينك ) يعني : هذا الشرط بيني وبينك ، فما شرطت علي فلك وما شرطت من تزويج إحداهما فلي ، والأمر بيننا ، تم الكلام ، ثم قال : ( أيما الأجلين قضيت ) يعني : أي الأجلين : و " ما " صلة ، " قضيت " : أتممت وفرغت منه ، الثمان أو العشر ، ( فلا عدوان علي ) لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منهما ، ( والله على ما نقول وكيل ) قال ابن عباس ومقاتل : شهيد فيما بيني وبينك . وقيل : حفيظ . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا سعيد بن سليمان ، أخبرنا مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على خير العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس قال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعا : إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى ؟ فقل : خيرهما وأبرهما ، وإذا سئلت : فأي المرأتين تزوج ؟ فقل : الصغرى منهما ، وهي التي جاءت ، فقالت يا أبت استأجره ، فتزوج أصغرهما وقضى أوفاهما .
وقال وهب : أنكحه الكبرى . وروي عن شداد بن أوس مرفوعا : بكى شعيب النبي - صلى الله عليه وسلم - من حب الله - عز وجل - حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، فقال الله : ما هذا البكاء ؟ أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار ؟ قال : لا يا رب ، ولكن شوقا إلى لقائك ، فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى كليمي .
ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا; قال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه . وقال آخرون : كانت من آس الجنة ، حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء ، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته ، فصارت من آدم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى . وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل ، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتته بها ، فلما رآها شعيب قال لها : ردي هذه العصا ، وأتيه بغيرها ، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فأعطاها موسى فأخرجها موسى معه ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فذهب في أثره ، وطلب أن يرد العصا فأبى موسى أن يعطيه . وقال : هي عصاي ، فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن يطرح العصا فمن حملها فهي له ، فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ .
ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ، ابنته إليه ، قال موسى للمرأة : اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم ، فطلبت من أبيها ، فقال شعيب : لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها . وقيل : أراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيته إكراما له وصلة لابنته ، فقال له إني قد وهبت لك من الجدايا التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال : فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله - عز وجل - إلى موسى وامرأته فوفى له شرطه وسلم الأغنام إليه .
قوله - عز وجل - : ( فلما قضى موسى الأجل ) يعني أتمه وفرغ منه ، ( وسار بأهله ) قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا آخر فأقام عنده عشرين سنة ، ثم استأذنه في العود إلى مصر ، فأذن له ، فخرج بأهله إلى جانب مصر ، ( آنس ) يعني : أبصر ، ( من جانب الطور نارا ) وكان في البرية في ليلة مظلمة ، شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق ، ( قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر ) عن الطريق ، لأنه كان قد أخطأ الطريق ، ( أو جذوة من النار ) يعني : قطعة وشعلة من النار . وفيها ثلاث لغات ، قرأ عاصم : " جذوة " بفتح الجيم ، وقرأ حمزة بضمها ، وقرأ الآخرون بكسرها ، قال قتادة ومقاتل : هي العود الذي قد احترق بعضه ، وجمعها " جذى " ( لعلكم تصطلون ) تستدفئون .
( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن ) من جانب الوادي الذي عن يمين موسى ، ( في البقعة المباركة ) لموسى ، جعلها الله مباركة لأن الله كلم موسى هناك وبعثه نبيا . وقال عطاء : يريد المقدسة ، ( من الشجرة ) من ناحية الشجرة ، قال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء تبرق ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة . قال وهب من العليق ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أنها العناب ، ( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين )
( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز ) تتحرك ، ( كأنها جان ) وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها ، ( ولى مدبرا ) هاربا منها ، ( ولم يعقب ) لم يرجع ، فنودي : ( يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين )
( اسلك ) أدخل ( يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) برص ، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس ، ( واضمم إليك جناحك من الرهب ) قرأ أهل الكوفة ، والشام : بضم الراء وسكون الهاء ، ويفتح الراء حفص ، وقرأ الآخرون بفتحهما ، وكلها لغات بمعنى الخوف ومعنى الآية : إذا هلك أمر يدك وما ترى من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى . " والجناح " : اليد كلها . وقيل : هو العضد . وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه . قال مجاهد : كل من فزع فضم جناحيه إليه ذهب عنه الفزع . وقيل : المراد من ضم الجناح : السكون ، أي : سكن روعك واخفض عليك جانبك ، لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ، ومثله قوله : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ( الإسراء - 24 ) ، يريد الرفق ، وقوله : " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " ( الشعراء - 215 ) ، أي : ارفق بهم وألن جانبك لهم .
قال الفراء : أراد بالجناح العصا ، معناه : اضمم إليك عصاك . وقيل : " الرهب " الكم بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول : أعطني ما في رهبك ، أي : في كمك ، معناه : اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ، لأنه تناول العصا ويده في كمه . ( فذانك ) يعني : العصا ، واليد البيضاء ، ( برهانان ) آيتان ، ( من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين )
"قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون".
( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ) وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ، ( فأرسله معي ردءا ) عونا ، يقال ردأته أي : أعنته ، قرأ نافع ( ردا ) بفتح الدال من غير همز طلبا للخفة ، وقرأ الباقون بسكون الدال مهموزا ، ( يصدقني ) قرأ عاصم ، وحمزة : برفع القاف على الحال ، أي : ردءا مصدقا ، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والتصديق لهارون في قول الجميع ، قال مقاتل : لكي يصدقني فرعون ، ( إني أخاف أن يكذبون ) يعني فرعون وقومه .
( قال سنشد عضدك بأخيك ) أي : نقويك بأخيك ، وكان هارون يومئذ بمصر ، ( ونجعل لكما سلطانا ) حجة وبرهانا ، ( فلا يصلون إليكما بآياتنا ) أي : لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء لمكان آياتنا ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ونجعل لكما سلطانا بآياتنا بما نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما ، ( أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) أي : لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه .
( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات ) واضحات ، ( قالوا ما هذا إلا سحر مفترى ) مختلق ، ( وما سمعنا بهذا ) بالذي تدعونا إليه ، ( في آبائنا الأولين )
( وقال موسى ) قرأ أهل مكة بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، ( ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ) بالمحق من المبطل ، ( ومن تكون له عاقبة الدار ) العقبى المحمودة في الدار الآخرة ، ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي : الكافرون .
( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين ) فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنه أول من اتخذ من الآجر وبنى به ، ( فاجعل لي صرحا ) قصرا عاليا ، وقيل : منارة ، قال أهل التفسير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، أراد الله - عز وجل - أن يفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما ، فقال قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد على البراذين ، فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ، فذلك قوله تعالى : ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى ) أنظر إليه وأقف على حاله ، ( وإني لأظنه ) يعني موسى ، ( من الكاذبين ) في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري ، وأنه رسوله .
( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ويعقوب : " يرجعون " بفتح الياء وكسر الجيم ، والباقون بضم الياء وفتح الجيم .
( فأخذناه وجنوده فنبذناهم ) فألقيناهم ، ( في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )
( وجعلناهم أئمة ) قادة ورؤساء ، ( يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ) لا يمنعون من العذاب .
( وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ) خزيا وعذابا ، ( ويوم القيامة هم من المقبوحين ) المبعدين الملعونين ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، يقال : قبحه الله وقبحه : إذا جعله قبيحا ، ويقال : قبحه قبحا ، وقبوحا ، إذا أبعده من كل خير .
قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) يعني : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى ، ( بصائر للناس ) أي : ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به ، ( وهدى ) من الضلالة لمن عمل به ، ( ورحمة ) لمن آمن به ، ( لعلهم يتذكرون ) بما فيه من المواعظ والبصائر .
( وما كنت ) يا محمد ، ( بجانب الغربي ) يعني : بجانب الجبل الغربي ، قاله قتادة والسدي ، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد حيث ناجى موسى ربه ، ( إذ قضينا إلى موسى الأمر ) يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه ، ( وما كنت من الشاهدين ) الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك .
( ولكنا أنشأنا قرونا ) خلقنا أمما بعد موسى عليه السلام ، ( فتطاول عليهم العمر ) أي : طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وتركوا أمره ، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها . ( وما كنت ثاويا ) مقيما ، ( في أهل مدين ) كمقام موسى وشعيب فيهم ، ( تتلو عليهم آياتنا ) تذكرهم بالوعد والوعيد ، قال مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ، ( ولكنا كنا مرسلين ) أي : أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار ، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها .
( وما كنت بجانب الطور ) بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، ( إذ نادينا ) قيل : إذ نادينا موسى : خذ الكتاب بقوة . وقال وهب : قال موسى : يا رب أرني محمدا ، قال : إنك لن تصل إلى ذلك ، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا رب ، قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير : ونادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ورفعه بعضهم - ، قال الله : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . قال الله تعالى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي ، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني ، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني ، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة ، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر . قوله تعالى : ( ولكن رحمة من ربك ) أي : ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك ، ( لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ) يعني : أهل مكة ، ( لعلهم يتذكرون )
( ولولا أن تصيبهم مصيبة ) عقوبة ونقمة ، ( بما قدمت أيديهم ) من الكفر والمعصية ، ( فيقولوا ربنا لولا ) هلا ( أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ) وجواب " لولا " محذوف ، أي : لعاجلناهم بالعقوبة ، يعني : لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم . وقيل : معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
( فلما جاءهم الحق من عندنا ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ( قالوا ) يعني : كفار مكة ، ( لولا ) هلا ( أوتي ) محمد ، ( مثل ما أوتي موسى ) من الآيات كاليد البيضاء والعصا وقيل : مثل ما أوتي موسى كتابا جملة واحدة . قال الله تعالى : ( أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) أي : فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ( قالوا سحران تظاهرا ) قرأ أهل الكوفة : " سحران " ، أي : التوراة والقرآن : " تظاهرا " يعني : كل سحر يقوي الآخر ، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع ، قال الكلبي : كانت مقالتهم تلك حين بعثوا إلى رءوس اليهود بالمدينة ، فسألوهم عن محمد فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة ، فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا : سحران تظاهرا . وقرأ الآخرون : " ساحران " يعنون محمدا وموسى عليه السلام ، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب ، ( وقالوا إنا بكل كافرون )
( قل ) يا محمد ، ( فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ) يعني : من التوراة والقرآن ، ( أتبعه إن كنتم صادقين )
( فإن لم يستجيبوا لك ) أي : لم يأتوا بما طلبت ، ( فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
( ولقد وصلنا لهم القول ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : بينا . قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا . قال قتادة : وصل لهم القول في هذا القرآن ، يعني كيف صنع بمن مضى . قال مقاتل : بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم . وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، ( لعلهم يتذكرون )
( الذين آتيناهم الكتاب من قبله ) من قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وقيل : من قبل القرآن ، ( هم به يؤمنون ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب; عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مقاتل : بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال سعيد بن جبير : هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبي الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا وجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم ، فانصرفوا فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فنزل فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب ) إلى قوله تعالى : ( ومما رزقناهم ينفقون ) . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب ، أربعون من نجران ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من الشام . ثم وصفهم الله فقال : ( وإذا يتلى عليهم )
( وإذا يتلى عليهم ) يعني القرآن ، ( قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ) وذلك أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ( إنا كنا من قبله مسلمين ) أي : من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي حق .
( أولئك يؤتون أجرهم مرتين ) لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، ( بما صبروا ) على دينهم . قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني ، أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي ، أخبرنا عثمان ، أخبرنا شعبة ، عن صالح ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . قوله - عز وجل - : ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، قال مقاتل : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو ، ( ومما رزقناهم ينفقون ) في الطاعة .
( وإذا سمعوا اللغو ) القبيح من القول ، ( أعرضوا عنه ) وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبا لكم تركتم دينكم ، فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ، ( وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) لنا ديننا ولكم دينكم ، ( سلام عليكم ) ليس المراد منه سلام التحية ، ولكنه سلام المتاركة ، معناه : سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم والقبيح من القول ، ( لا نبتغي الجاهلين ) أي : دين الجاهلين ، يعني : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه . وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه ، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال .
قوله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ) أي : أحببت هدايته . وقيل : أحببته لقرابته ، ( ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) قال مجاهد ، ومقاتل : لمن قدر له الهدى ، نزلت في أبي طالب قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) مكة ، نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة . وهو معنى قوله : ( نتخطف من أرضنا ) ، والاختطاف : الانتزاع بسرعة . قال الله تعالى : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا ) وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا ، لحرمة الحرم ، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ، ( يجبى ) قرأ أهل المدينة ويعقوب : " تجبى " بالتاء لأجل الثمرات ، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ، أي : يجلب ويجمع ، ( إليه ) يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته ، قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ، ( ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن ما يقوله حق .
قوله - عز وجل - : ( وكم أهلكنا من قرية ) أي من أهل قرية ، ( بطرت معيشتها ) أي : في معيشتها ، أي : أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، ( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لم يسكنها إلا المسافرون ومار الطريق يوما أو ساعة ، معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا . وقيل : معناه : لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، ( وكنا نحن ، الوارثين ) " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " ( مريم - 40 ) .
( وما كان ربك مهلك القرى ) أي : القرى الكافرة أهلها ، ( حتى يبعث في أمها رسولا ) يعني : في أكبرها وأعظمها رسولا ينذرهم ، وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها ، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف ، والأشراف يسكنون المدائن ، والمواضع التي هي أم ما حولها ، ( يتلو عليهم آياتنا ) قال مقاتل : يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا ، ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) مشركون ، يريد : أهلكتهم بظلمهم .
( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ) تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء ، ( وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ) أن الباقي خير من الفاني . قرأ عامة القراء : " تعقلون " بالتاء وأبو عمرو بالخيار بين التاء والياء .
( أفمن وعدناه وعدا حسنا ) أي الجنة ( فهو لاقيه ) مصيبه ومدركه وصائر إليه ( كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ) ويزول عن قريب ( ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) النار ، قال قتادة : يعني المؤمن والكافر ، قال مجاهد : نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل . وقال محمد بن كعب : نزلت في حمزة وعلي ، وأبي جهل . وقال السدي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة .
( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) في الدنيا أنهم شركائي .
( قال الذين حق عليهم القول ) وجب عليهم العذاب وهم رءوس الضلالة ، ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا ) أي : دعوناهم إلى الغي ، وهم الأتباع ، ( أغويناهم كما غوينا ) أضللناهم كما ضللنا ، ( تبرأنا إليك ) منهم ( ما كانوا إيانا يعبدون ) برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء ، كما قال تعالى : " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو " ( الزخرف - 67 ) .
( وقيل ) للكفار : ( ادعوا شركاءكم ) أي : الأصنام لتخلصكم من العذاب ، ( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) يجيبوهم ، ( ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) وجواب " لو " محذوف على تقدير : لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب .
( ويوم يناديهم ) أي : يسأل الله الكفار ، ( فيقول ماذا أجبتم المرسلين )
( فعميت ) خفيت واشتبهت ( عليهم الأنباء ) أي : الأخبار والأعذار ، وقال مجاهد : الحجج ، ( يومئذ ) فلا يكون لهم عذر ولا حجة ، ( فهم لا يتساءلون ) لا يجيبون ، وقال قتادة : لا يحتجون ، وقيل : يسكتون لا يسأل بعضهم بعضا .
( فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ) السعداء الناجين .
قوله تعالى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ، يعني : الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم . قوله - عز وجل - : ( ما كان لهم الخيرة ) قيل : " ما " للإثبات ، معناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير . وقيل : هو للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، وليس لهم أن يختاروا على الله ، كما قال تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة " ( الأحزاب - 36 ) ، " والخيرة " : اسم من الاختيار يقام مقام المصدر ، وهي اسم للمختار أيضا كما يقال : محمد خيرة الله من خلقه . ثم نزه نفسه فقال : ( سبحان الله وتعالى عما يشركون )
( وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) يظهرون .
( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ) يحمده أولياؤه في الدنيا ، ويحمدونه في الآخرة في الجنة ، ( وله الحكم ) فصل القضاء بين الخلق . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل معصيته بالشقاء ، ( وإليه ترجعون )
قوله - عز وجل - : ( قل أرأيتم ) أخبروني يا أهل مكة ( إن جعل الله عليكم الليل سرمدا ) دائما ، ( إلى يوم القيامة ) لا نهار معه ، ( من إله غير الله يأتيكم بضياء ) بنهار تطلبون فيه المعيشة ، ( أفلا تسمعون ) سماع فهم وقبول .
( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة ) لا ليل فيه ، ( من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) ما أنتم عليه من الخطأ .
( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ) أي : في الليل ، ( ولتبتغوا من فضله ) بالنهار ، ( ولعلكم تشكرون ) نعم الله - عز وجل - .
( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) كرر ذكر النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ .
( ونزعنا ) أخرجنا ، ( من كل أمة شهيدا ) يعني : رسولهم الذي أرسل إليهم ، كما قال : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " ( النساء - 41 ) ، ( فقلنا هاتوا برهانكم ) حجتكم بأن معي شريكا . ( فعلموا أن الحق ) التوحيد ، ( لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ) في الدنيا .
قوله - عز وجل - : ( إن قارون كان من قوم موسى ) كان ابن عمه; لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري ، ( فبغى عليهم ) قيل : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال . وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك . وقال شهر بن حوشب : زاد في طول ثيابه شبرا ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " وقيل : بغى عليهم بالكبر والعلو . ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه ) هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه : خزائنه ، كما قال : " وعنده مفاتح الغيب " ( الأنعام - 59 ) ، أي : خزائنه ( لتنوء بالعصبة أولي القوة ) أي : لتثقلهم ، وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا .
واختلفوا في عدد العصبة ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين . وقيل : أربعون رجلا . وقيل : سبعون . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال . وقال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز .
ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب ، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا . ( إذ قال له قومه ) قال لقارون قومه من بني إسرائيل : ) ( لا تفرح ) لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ( إن الله لا يحب الفرحين ) الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة والجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله تعالى ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) قال مجاهد ، وابن زيد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة . وقال السدي : بالصدقة وصلة الرحم . وقال علي : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن شاذان ، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي ، أخبرنا حسين المروزي ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا جعفر بن برقان ، عن زياد بن الجراح ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " الحديث مرسل . قال الحسن : أمره أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه ، قال منصور بن زاذان في قوله : " ولا تنس نصيبك من الدنيا " ، قال : قوتك وقوت أهلك .
( وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ أي : أحسن بطاعة الله ] كما أحسن الله إليك بنعمته . وقيل : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ( إن الله لا يحب المفسدين )
( قال ) يعني قارون ، ( إنما أوتيته على علم عندي ) أي : على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك ، ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره . قيل : هو علم الكيمياء ، قال سعيد بن المسيب : كان موسى يعلم الكيمياء فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله . وقيل : " على علم عندي " بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب . قوله تعالى : ( أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون ) الكافرة ( من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ) للأموال ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال ، وقال مجاهد : يعني لا يسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم . قال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ .
( فخرج على قومه في زينته ) قال إبراهيم النخعي : خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر ، قال ابن زيد : في سبعين ألفا عليهم المعصفرات . [ قال مجاهد : على براذين بيض عليها سرج الأرجوان ] قال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ، ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر ، وهن على البغال الشهب ، ( قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) من المال .
( وقال الذين أوتوا العلم ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الأحبار من بني إسرائيل . وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة ، قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون في الدنيا : ( ويلكم ثواب الله خير ) يعني ما عند الله من الثواب والجزاء خير ) ( لمن آمن ) وصدق بتوحيد الله ) ( وعمل صالحا ) مما أوتي قارون في الدنيا ( ولا يلقاها إلا الصابرون ) قال مقاتل : لا يؤتاها ، يعني الأعمال الصالحة . وقال الكلبي لا يعطاها في الآخرة . وقيل : لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله : " ويلكم ثواب الله خير " إلا الصابرون على طاعة الله وعن زينة الدنيا .
قوله - عز وجل - : ( فخسفنا به وبداره الأرض ) قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعقلوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أزرق كلون السماء ، يذكروني به إذا نظروا إليها ، ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال له ربه : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى عليه السلام ، وقال : إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، ففعلت بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى ، واستكبر قارون فلم يطعه ، وقال : إنما يفعل هذا الأرباب ، بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم ، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رياسة المذبح ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون من ذلك في نفسه وأتى موسى فقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست ، في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا . فقال له موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له . فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه ، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال : هاتوا عصيكم ، فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها ، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟ فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، واعتزل قارون ، موسى بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى ، حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ، فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء على شيء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه ، فجمع بني إسرائيل فقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي ، فنجعل لها جعلا حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه ، فدعوها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل طستا من ذهب ، وقيل : قال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت ، أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما أن جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وعظم عليها ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجدا يبكي ويقول : اللهم إن كنت ، رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله تعالى إليه : إني أمرت ، الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم .
وفي رواية : كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته ، وفي بعض الآثار : لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد . قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة . قال : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، فذلك قوله - عز وجل - : ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) يمنعونه من الله ( وما كان من المنتصرين ) الممتنعين مما نزل به من الخسف .
( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ) صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني ، والعرب تعبر عن الصيرورة بأضحى وأمسى وأصبح ، تقول : أصبح فلان عالما ، وأضحى معدما ، وأمسى حزينا ( يقولون ويكأن الله ) اختلفوا في معنى هذه اللفظة ، قال مجاهد : ألم تعلم ، وقال قتادة : ألم تر . قال الفراء : هي كلمة تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه . وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت . وعن الحسن : أنه كلمة ابتداء ، تقديره : أن الله يبسط الرزق . وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا وقال قطرب : " ويك " بمعنى ويلك ، حذفت منه اللام ، كما قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويك عنتر أقدم
أي : ويلك ، و " أن " منصوب بإضمار اعلم أن الله ، وقال الخليل : " وي " مفصولة من " كأن " ومعناها التعجب ، كما تقول : وي لم فعلت ذلك! وذلك أن القوم تندموا فقالوا : وي! متندمين على ما سلف منهم وكأن معناه أظن ذلك وأقدره ، كما تقول كأن : الفرج قد أتاك أي أظن ذلك وأقدره ( يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) أي : يوسع ويضيق ( لولا أن من الله علينا لخسف بنا ) قرأ حفص ، ويعقوب : بفتح الخاء والسين ، وقرأ العامة بضم الخاء وكسر السين ( ويكأنه لا يفلح الكافرون )
قوله تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ) قال الكلبي ومقاتل : استكبارا عن الإيمان ، وقال عطاء : " علوا " واستطالة على الناس وتهاونا بهم . وقال الحسن : لم تطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان . وعن علي رضي الله عنه : أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدرة ) ( ولا فسادا ) قال الكلبي : هو الدعاء إلى عبادة غير الله . وقال عكرمة : أخذ أموال الناس بغير حق . وقال ابن جريج ومقاتل : العمل بالمعاصي . ( والعاقبة للمتقين ) أي : العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه . وقال قتادة : الجنة للمتقين .
"من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون".
قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن ) أي : أنزل عليك القرآن على قول أكثر المفسرين وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن ( لرادك إلى معاد ) إلى مكة ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وهو قول مجاهد . قال القتيبي : معاد الرجل : بلده ، لأنه ينصرف ثم يعود إلى بلده ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله تعالى يقول : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) ، وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " لرادك إلى معاد " إلى الموت . وقال الزهري وعكرمة : إلى القيامة . وقيل : إلى الجنة . ( قل ربي أعلم من جاء بالهدى ) [ أي : يعلم من جاء بالهدى ] ، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك لفي ضلال ، فقال الله - عز وجل - : قل لهم ربي أعلم من جاء بالهدى ، يعني نفسه ( ومن هو في ضلال مبين ) يعني المشركين ، ومعناه : أعلم بالفريقين .
قوله تعالى : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ) أي : يوحى إليك القرآن ( إلا رحمة من ربك ) قال الفراء : هذا من الاستثناء المنقطع ، معناه : لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) أي : معينا لهم على دينهم . قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكر الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه .
( ولا يصدنك عن آيات الله ) يعني القرآن ( بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ) إلى معرفته وتوحيده ( ولا تكونن من المشركين ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : الخطاب في الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به أهل دينه ، أي : لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم .
( ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه ) أي : إلا هو ، وقيل : إلا ملكه ، قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه ( له الحكم ) أي : فصل القضاء ( وإليه ترجعون ) تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم .
![]() |
![]() |
![]() |
![](/images/arrowtop.jpg)
اسم السورة | سورة القصص (Al-Qasas - The Stories) |
ترتيبها | 28 |
عدد آياتها | 88 |
عدد كلماتها | 1441 |
عدد حروفها | 5791 |
معنى اسمها | القَصَصُ: جَمْعُ (قِصَّةٍ)، وَهِيَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ. وَالمُرَادُ (بالقَصَصِ): مَجْمُوعُ قَصَصِ مُوسَى عليه السلام دُونَ غَيرِهِ مِن الأَنْبِيَاءِ عليه السلام |
سبب تسميتها | نِسْبَةً لِمَجْمُوعِ قَصَصِ مُوسَى عليه السلام |
أسماؤها الأخرى | اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (القَصَصِ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (مُوسَى عليه السلام) |
مقاصدها | تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ |
أسباب نزولها | سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِهَا سَبَبُ نُزُولٍ |
فضلها | لَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ أَو أَثَرٌ خَاصٌّ فِي فَضلِ السُّورَةِ، سِوَى أَنـَّهَا مِنَ المَثَانِي |
مناسبتها | مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (الْقَصَصِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنِ الْعُلُوِّ فِي الأَرْضِ وَعَاقِبَتِهِ، فَقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ...٤﴾، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ ...٨٣﴾. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (الْقَصَصِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (النَّمْلِ): لَمَّا خَتَمَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (النَّمْلَ) بِالدَّعْوَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ بِقَولِهِ: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ ...٩٣﴾ افْتَتَحَ (القَصَصَ) بِذِكْرِ آيَاتِ اللهِ فِي قَصَصِ مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ: ﴿طسٓمٓ ١ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ نَتۡلُواْ عَلَيۡكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرۡعَوۡنَ بِٱلۡحَقِّ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٣﴾. |