المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة النحل: [تفسير البغوي]
كتاب معالم التنزيل، للحسين بن مسعود البغوي، المحدّث والفقيه الشافعي، توفي (510 هـ). وهو تفسير متوسط نقل فيه مصنفه الصحيح من تفسير الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولا يذكر الضعيف.
![]() |
![]() |
![]() |
سورة النحل | ||
![]() |
مكية [ مائة وثمان وعشرون آية ] إلا قوله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إلى آخر السورة .
( أتى ) أي جاء ودنا وقرب ، ( أمر الله ) قال ابن عرفة : تقول العرب : أتاك الأمر وهو متوقع بعد ، أي : أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا .
( أمر الله ) قال الكلبي وغيره : المراد منه القيامة .
قال ابن عباس لما نزل قوله تعالى " اقتربت الساعة " ( القمر - 1 ) قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما لم ينزل شيء [ قالوا : ما نرى شيئا فنزل قوله " اقترب للناس حسابهم " ( الأنبياء - 1 ) فأشفقوا ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به ] فأنزل الله تعالى : ( أتى أمر الله ) فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزلت ( فلا تستعجلوه ) فاطمأنوا .
والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه .
ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه ، وإن كادت لتسبقني " .
قال ابن عباس : كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ولما مر جبريل عليه السلام بأهل السموات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : الله أكبر قامت الساعة .
وقال قوم : المراد بالأمر هاهنا : عقوبة المكذبين والعذاب بالسيف وذلك أن النضر بن الحارث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فاستعجل العذاب ، فنزلت هذه الآية . وقتل النضر يوم بدر صبرا .
( سبحانه وتعالى عما يشركون ) معناه تعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون .
( ينزل الملائكة ) قرأ العامة بضم الياء وكسر الزاي ، و ( الملائكة ) نصب . وقرأ يعقوب بالتاء وفتحها وفتح الزاي و " الملائكة " رفع ، ( ينزل الملائكة بالروح ) بالوحي ، سماه روحا لأنه يحيي به القلوب والحق .
قال عطاء : بالنبوة .
وقال قتادة : بالرحمة .
قال أبو عبيدة : " بالروح " يعني مع الروح ، وهو جبريل . ( من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا ) أعلموا : ( أنه لا إله إلا أنا فاتقون )
وقيل : معناه مروهم بقول " لا إله إلا الله " منذرين مخوفين بالقرآن إن لم يقولوا .
وقوله : " فاتقون " أي فخافون .
( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ) أي : ارتفع عما يشركون .
( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم ) جدل بالباطل ، ( مبين )
نزلت في أبي بن خلف الجمحي ، وكان ينكر البعث جاء بعظم رميم فقال : أتقول إن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم؟ كما قال جل ذكره " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه " ( يس - 77 ) نزلت فيه أيضا .
والصحيح أن الآية عامة ، وفيها بيان القدرة وكشف قبيح ما فعلوه ، من جحد نعم الله مع ظهورها عليهم .
قوله تعالى ( والأنعام خلقها ) يعني الإبل والبقر والغنم ، ( لكم فيها دفء ) يعني : من أوبارها وأشعارها وأصوافها ملابس ولحفا تستدفئون بها ، ( ومنافع ) بالنسل والدر والركوب والحمل وغيرها ، ( ومنها تأكلون ) يعني لحومها .
( ولكم فيها جمال ) زينة ، ( حين تريحون ) أي : حين تردونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوي إليها ، ( وحين تسرحون ) أي : تخرجونها بالغداة من مراحها إلى مسارحها ، وقدم الرواح لأن المنافع تؤخذ منها بعد الرواح ، ومالكها يكون أعجب بها إذا راحت .
( وتحمل أثقالكم ) أحمالكم ، ( إلى بلد ) آخر غير بلدكم . قال عكرمة : البلد مكة ، ( لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) أي : بالمشقة والجهد . والشق : النصف أيضا أي : لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة النفس وذهاب نصفها .
وقرأ أبو جعفر ( بشق ) بفتح الشين ، وهما لغتان ، مثل : رطل ورطل .
( إن ربكم لرءوف رحيم ) بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع .
( والخيل ) يعني : وخلق الخيل ، وهي اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء ، ( والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) يعني وجعلها زينة لكم مع المنافع التي فيها .
واحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس ، وتلا هذه الآية ، فقال : هذه للركوب [ وإليه ذهب ] الحكم ، ومالك ، وأبو حنيفة .
وذهب جماعة إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن ، وشريح ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
ومن أباحها قال : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم بل المراد منه تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، واحتجوا بما :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن عمرو - هو ابن دينار - عن محمد بن علي ، عن جابر رضي الله عنه قال : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل " . .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدثنا الحسن بن الفرج ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عبد الكريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر : أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونهى عن لحوم البغال والحمير; روي عن المقدام بن معدي كرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وإسناده ضعيف .
( ويخلق ما لا تعلمون ) قيل : يعني ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ، مما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر .
وقال قتادة يعني : السوس في النبات والدود في الفواكه .
قوله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ) يعني : بيان طريق الهدى من الضلالة . وقيل : بيان الحق بالآيات والبراهين . والقصد : الصراط المستقيم .
( ومنها جائر ) يعني : ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج ، فالقصد من السبيل : دين الإسلام ، والجائر منها : اليهودية ، والنصرانية ، وسائر ملل الكفر .
قال جابر بن عبد الله : " قصد السبيل " : بيان الشرائع والفرائض .
وقال عبد الله بن المبارك ، وسهل بن عبد الله : " قصد السبيل " السنة ، " ومنها جائر " الأهواء والبدع ، دليله قوله تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " ( الأنعام - 153 ) .
( ولو شاء لهداكم أجمعين ) نظيره قوله تعالى : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " ( السجدة - 13 ) .
قوله عز وجل : ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ) تشربونه ، ( ومنه شجر ) أي من ذلك الماء شرب أشجاركم ، وحياة نباتكم ، ( فيه ) يعني : في الشجر ، ( تسيمون ) ترعون مواشيكم .
( ينبت لكم به ) أي : ينبت الله لكم به ، يعني بالماء الذي أنزل ، وقرأ أبو بكر عن عاصم " ننبت " بالنون . ( الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )
( وسخر لكم ) [ ذلل لكم ] ( الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات ) مذللات ، ( بأمره ) أي : بإذنه ، وقرأ حفص ( والنجوم مسخرات ) بالرفع على الابتداء . ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )
( وما ذرأ ) خلق ، ( لكم ) لأجلكم ، أي : وسخر ما خلق لأجلكم ، ( في الأرض ) من الدواب والأشجار والثمار وغيرها ، ( مختلفا ) نصب على الحال ، ( ألوانه )
( إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) يعتبرون .
( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ) يعني : السمك ، ( وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) يعني : اللؤلؤ والمرجان ، ( وترى الفلك مواخر فيه ) جواري .
قال قتادة : مقبلة ومدبرة ، وهو أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر ، تجريان بريح واحدة .
وقال الحسن : " مواخر " أي : مملوءة .
وقال الفراء والأخفش : شواق تشق الماء بجناحيها .
قال مجاهد : تمخر السفن الرياح .
وأصل المخر : الرفع والشق ، وفي الحديث : " إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح " أي لينظر من أين مجراها وهبوبها ، فليستدبرها حتى لا يرد عليه البول .
وقال أبو عبيدة : صوائخ ، والمخر : صوت هبوب الريح عند شدتها .
( ولتبتغوا من فضله ) يعني : التجارة ، ( ولعلكم تشكرون ) إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم .
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) أي : [ لئلا تميد بكم ] أي تتحرك وتميل .
والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر : ميد .
قال وهب : لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال .
( وأنهارا وسبلا ) أي : وجعل فيها أنهارا وطرقا مختلفة ، ( لعلكم تهتدون ) إلى ما تريدون فلا تضلون .
( وعلامات ) يعني : معالم الطرق . قال بعضهم : هاهنا تم الكلام ثم ابتدأ : ( وبالنجم هم يهتدون )
قال محمد بن كعب ، والكلبي : أراد بالعلامات الجبال ، فالجبال تكون علامات النهار ، والنجوم علامات الليل .
وقال مجاهد : أراد بالكل النجوم ، منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به .
قال السدي : أراد بالنجم ، الثريا ، وبنات نعش ، والفرقدين ، والجدي ، يهتدى بها إلى الطرق والقبلة .
وقال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء : لتكون زينة للسماء ، ومعالم للطرق ، ورجوما للشياطين ، فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به
( أفمن يخلق ) يعني الله تعالى ، ( كمن لا يخلق ) يعني الأصنام ، ( أفلا تذكرون )
( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور ) لتقصيركم في شكر نعمه ، ( رحيم ) بكم حيث وسع عليكم النعم ، ولم يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي .
" والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ".
( والذين يدعون من دون الله ) يعني الأصنام ، وقرأ عاصم ويعقوب " يدعون " بالياء . ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون )
( أموات ) أي الأصنام ( غير أحياء وما يشعرون ) يعني الأصنام ( أيان ) متى ( يبعثون ) والقرآن يدل على أن الأصنام تبعث وتجعل فيها الحياة فتتبرأ من عابديها .وقيل : ما يدري الكفار عبدة الأصنام متى يبعثون .
قوله تعالى : ( إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) جاحدة ، ( وهم مستكبرون ) متعظمون .
( لا جرم ) حقا ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين )
أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن محمد بن محمي البسطامي ، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن سختويه ، أخبرنا أبو الفضل سفيان بن محمد الجوهري ، حدثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى الهلالي حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن فضيل الفقيمي ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " ، فقال رجل : يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا؟ قال : " إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس " .
( وإذا قيل لهم ) يعني : لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم مشركو مكة الذين اقتسموا عقابها إذا سأل الحاج : ( ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) أحاديثهم وأباطيلهم .
( ليحملوا أوزارهم ) ذنوب أنفسهم ، ( كاملة ) وإنما ذكر الكمال لأن البلايا التي تلحقهم في الدنيا وما يفعلون من الحسنات لا تكفر عنهم شيئا ، ( يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) بغير حجة فيصدونهم عن الإيمان ، ( ألا ساء ما يزرون ) يحملون .
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .
قوله تعالى : ( قد مكر الذين من قبلهم ) وهو نمرود بن كنعان ، بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء .
قال ابن عباس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع .
وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين ، فهبت ريح وألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها ( فخر عليهم السقف ) يعني أعلى البيوت ( من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) من مأمنهم .
( ثم يوم القيامة يخزيهم ) يهينهم بالعذاب ، ( ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) تخالفون المؤمنين فيهم ، ما لهم لا يحضرونكم فيدفعون عنكم العذاب؟
وكسر نافع النون من " تشاقون " على الإضافة ، والآخرون بفتحها .
قال الذين أوتوا العلم ) [ وهم المؤمنون ] ( إن الخزي ) الهوان ، ( اليوم والسوء ) أي العذاب ، ( على الكافرين )
( الذين تتوفاهم الملائكة ) يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ، قرأ حمزة " يتوفاهم " بالياء وكذا ما بعده ، ( ظالمي أنفسهم ) بالكفر ، ونصب على الحال أي : في حال كفرهم ، ( فألقوا السلم ) أي استسلموا وانقادوا وقالوا : ( ما كنا نعمل من سوء ) شرك ، فقال لهم الملائكة : ( بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ) قال عكرمة : عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر .
( فادخلوا ) أي : قال لهم ادخلوا ( أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ) عن الإيمان .
( وقيل للذين اتقوا ) وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه ، فيقولون : ساحر ، كاهن ، شاعر ، كذاب ، مجنون ، ولو لم تلقه خير لك ، فيقول السائل : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة فألقاه ، فيدخل مكة فيرى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث . فذلك قوله : ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) يعني : أنزل خيرا .
ثم ابتدأ فقال : ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) كرامة من الله .
قال ابن عباس : هي تضعيف الأجر إلى العشر .
وقال الضحاك : هي النصر والفتح .
وقال مجاهد : هي الرزق الحسن .
( ولدار الآخرة ) أي ولدار الحال الآخرة ، ( خير ولنعم دار المتقين ) قال الحسن : هي الدنيا; لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة . وقال أكثر المفسرين : هي الجنة
ثم فسرها فقال : ( جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين )
( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) مؤمنين طاهرين من الشرك .
قال مجاهد : زاكية أفعالهم وأقوالهم .
وقيل : معناه : إن وفاتهم تقع طيبة سهلة . ( يقولون ) يعني : الملائكة لهم ، ( سلام عليكم ) وقيل : يبلغونهم سلام الله ، ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون )
قوله عز وجل ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) لقبض أرواحهم ، ( أو يأتي أمر ربك ) يعني يوم القيامة ، وقيل : العذاب . ( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي : كفروا ، ( وما ظلمهم الله ) بتعذيبه إياهم ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
( فأصابهم سيئات ما عملوا ) عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة ، ( وحاق بهم ) [ نزل بهم ] ( ما كانوا به يستهزئون )
( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ) يعني : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، فلولا أن الله رضيها لغير ذلك وهدانا إلى غيرها ، ( كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) أي : ليس إليهم الهداية إنما إليهم التبليغ .
( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ) أي : كما بعثنا فيكم ، ( أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وهو كل معبود من دون الله ، ( فمنهم من هدى الله ) أي : هداه الله إلى دينه ، ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) أي : وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره ، ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي : مآل أمرهم ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك .
( إن تحرص على هداهم ) يا محمد ، ( فإن الله لا يهدي من يضل ) قرأ أهل الكوفة " يهدي " بفتح الياء وكسر الدال أي : لا يهدي الله من أضله . وقيل : معناه لا يهتدي من أضله الله .
وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الدال يعني من أضله الله فلا هادي له كما قال : من يضلل الله فلا هادي له ( الأعراف - 186 ) .
( وما لهم من ناصرين ) أي : مانعين من العذاب .
قوله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) وهم منكرو البعث ، قال الله تعالى ردا عليهم : ( بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
( ليبين لهم الذي يختلفون فيه ) أي : ليظهر لهم الحق فيما يختلفون فيه ( وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين )
( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) يقول الله تعالى : إذا أردنا أن نبعث الموتى فلا تعب علينا في إحيائهم ، ولا في شيء مما يحدث ، إنما نقول له : كن ، فيكون .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله : كذبني عبدي ، ولم يكن ذلك له ، وشتمني عبدي ولم يكن ذلك له ، فأما تكذيبه إياي ، أن يقول : لن يعيدنا كما بدأنا ، وأما شتمه إياي ، أن يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الصمد ، لم ألد ، ولم يكن لي كفوا أحد " .
قوله تعالى ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ) عذبوا وأوذوا في الله .
نزلت في بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار ، وعابس ، وجبر ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم .
وقال قتادة : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين .
( لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) وهو أنه أنزلهم المدينة .
روي عن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل [ من المهاجرين ] عطاء يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم تلا هذه الآية .
وقيل : معناه لنحسنن إليهم في الدنيا .
وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية .
( ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) وقوله : " لو كانوا يعلمون " ، ينصرف إلى المشركين لأن المؤمنين كانوا يعلمونه .
( الذين صبروا ) في الله على ما نابهم ( وعلى ربهم يتوكلون )
( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فهلا بعث إلينا ملكا ؟
( فاسألوا أهل الذكر ) يعني مؤمني أهل الكتاب ، ( إن كنتم لا تعلمون )
بالبينات والزبر ) واختلفوا في الجالب للباء في قوله ( بالبينات ) قيل : هي راجعة إلى قوله : ( وما أرسلنا ) و " إلا " بمعنى : غير ، مجازه : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة .
وقيل : تأويله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم [ أرسلناهم ] بالبينات والزبر . ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) أراد بالذكر الوحي ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبينا للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة ، ( ولعلهم يتفكرون)
( أفأمن الذين مكروا ) عملوا ( السيئات ) من قبل ، يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار ، ( أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون )
( أو يأخذهم ) بالعذاب ، ( في تقلبهم ) تصرفهم في الأسفار . وقال ابن عباس : في اختلافهم . وقال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم ، ( فما هم بمعجزين ) بسابقين الله
( أو يأخذهم على تخوف ) والتخوف : التنقص ، أي : ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم ، يقال : تخوفه الدهر وتخونه : إذا نقصه وأخذ ماله وحشمه .
ويقال : هذا لغة بني هزيل .
وقال الضحاك والكلبي : من الخوف ، أي : يعذب طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم .
( فإن ربكم لرءوف رحيم ) حين لم يعجل بالعقوبة .
قوله عز وجل : ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء ) - قرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب ، وكذلك في سورة العنكبوت ، والآخرون بالياء ، خبرا عن الذين مكروا السيئات - إلى ما خلق الله من شيء من جسم قائم ، له ظل ، ( يتفيأ ) قرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء والآخرون بالياء . ( ظلاله ) أي : تميل وتدور من جانب إلى جانب ، فهي في أول النهار على حال ، ثم تتقلص ، ثم تعود في آخر النهار إلى حال أخرى سجدا لله ، فميلانها ودورانها : سجودها لله عز وجل . ويقال للظل بالعشي : فيء; لأنه فاء ، أي رجع من المغرب إلى المشرق ، فالفيء الرجوع . والسجود الميل . ويقال : سجدت النخلة إذا مالت .
قوله عز وجل : ( عن اليمين والشمائل سجدا لله ) قال قتادة والضحاك : أما اليمين : فأول النهار ، والشمال : آخر النهار ، تسجد الظلال لله .
وقال الكلبي : الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك ، وكذلك إذا غابت ، فإذا طلعت كان من قدامك ، وإذا ارتفعت كان عن يمينك ، ثم بعده كان خلفك ، فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك ، فهذا تفيؤه ، وتقلبه ، وهو سجوده .
وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله .
وقيل : المراد من الظلال : سجود الأشخاص .
فإن قيل لم وحد اليمين وجمع الشمائل؟
قيل من شأن العرب في اجتماع العلامتين الاكتفاء بواحدة ، كقوله تعالى : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ( البقرة - 7 ) وقوله : " يخرجهم من الظلمات إلى النور " ( البقرة - 257 ) .
وقيل : اليمين يرجع إلى قوله : " ما خلق الله " . ولفظ " ما " واحد ، والشمائل : يرجع إلى المعنى .
( وهم داخرون ) صاغرون .
( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ) إنما أخبر ب " ما " لغلبة ما لا يعقل على من يعقل في العدد ، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث ، ( من دابة ) أراد من كل حيوان يدب . ويقال : السجود : الطاعة ، والأشياء كلها مطيعة لله عز وجل من حيوان وجماد ، قال الله تعالى : " قالتا أتينا طائعين " ( فصلت - 11 ) .
وقيل : سجود الأشياء تذللها وتسخرها لما أريدت له وسخرت له .
وقيل : سجود الجمادات وما لا يعقل : ظهور أثر الصنع فيه ، على معنى أنه يدعو الغافلين إلى السجود عند التأمل والتدبر فيه ، قال الله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق " ( فصلت - 53 ) .
( والملائكة ) خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملة ما في السموات والأرض تشريفا ورفعا لشأنهم .
وقيل : لخروجهم من الموصوفين بالدبيب إذ لهم أجنحة يطيرون بها .
وقيل : أراد : ولله يسجد ما في السموات من الملائكة وما في الأرض من دابة ، وتسجد الملائكة . ( وهم لا يستكبرون )
( يخافون ربهم من فوقهم ) كقوله : " وهو القاهر فوق عباده " ( الأنعام - 18 ) .
( ويفعلون ما يؤمرون )
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا محمد بن سمعان ، حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الشعراني ، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي ، حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن مورق ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك يمجد الله ، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ، ولصعدتم إلى الصعدات تجأرون " ، قال أبو ذر : " يا ليتني كنت شجرة تعضد " . رواه أبو عيسى عن أحمد بن منيع ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن إسرائيل وقال : " إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله " .
قوله تعالى : ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون)
( وله ما في السماوات والأرض وله الدين ) الطاعة والإخلاص ( واصبا ) دائما ثابتا .
معناه : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلاك ، غير الله عز وجل ، فإن الطاعة تدوم له ولا تنقطع .
( أفغير الله تتقون ) أي : تخافون ، استفهام على طريق الإنكار .
قوله تعالى ( وما بكم من نعمة فمن الله ) أي : وما يكن بكم من نعمة فمن الله ، ( ثم إذا مسكم الضر ) القحط والمرض ، ( فإليه تجأرون ) تضجون وتصيحون بالدعاء والاستغاثة .
" ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون " .
( ليكفروا ) ليجحدوا ، [ وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، أي : حاصل أمرهم هو كفرهم ] ( بما آتيناهم ) أعطيناهم من النعماء وكشف الضراء والبلاء ، ( فتمتعوا ) أي : عيشوا في الدنيا المدة التي ضربتها لكم ، ( فسوف تعلمون ) عاقبة أمركم . هذا وعيد لهم .
( ويجعلون لما لا يعلمون ) له حقا ، أي الأصنام ، ( نصيبا مما رزقناهم ) من الأموال ، وهو ما جعلوا للأوثان من حروثهم وأنعامهم ، فقالوا : هذا لله بزعمهم ، وهذا لشركائنا .
ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال : ( تالله لتسألن ) يوم القيامة ، ( عما كنتم تفترون ) في الدنيا .
( ويجعلون لله البنات ) وهم خزاعة وكنانة ، قالوا : الملائكة بنات الله تعالى : ( سبحانه ولهم ما يشتهون ) أي : ويجعلون لأنفسهم البنين الذين يشتهونهم ، فتكون " ما " في محل النصب ، ويجوز أن تكون على الابتداء فتكون " ما " في محل الرفع .
( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا ) متغيرا من الغم والكراهية ، ( وهو كظيم ) وهو ممتلئ حزنا وغيظا فهو يكظمه أي : يمسكه ولا يظهره .
يتوارى ) أي : يختفي ، ( من القوم من سوء ما بشر به ) من الحزن والعار ، ثم يتفكر : ( أيمسكه ) ذكر الكناية ردا على " ما " ( على هون ) أي : هوان ، ( أم يدسه في التراب ) أي : يخفيه منه ، فيئده .
وذلك : أن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء ، خوفا من الفقر عليهم ، وطمع غير الأكفاء فيهن ، وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ، وتركها ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية ، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئرا في الصحراء ، فإذا بلغ بها البئر قال لها : انظري إلى هذه البئر ، فيدفعها من خلفها في البئر ، ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ، فذلك قوله عز وجل : ( أيمسكه على هون أم يدسه في التراب )
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يحييها بذلك ، فقال الفرزدق يفتخر به .
وعمي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم توأد
( ألا ساء ما يحكمون ) بئس ما يقضون لله البنات ولأنفسهم البنين ، نظيره : " ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى " ( النجم - 22 ) ، وقيل : بئس حكمهم وأد البنات .
( للذين لا يؤمنون بالآخرة ) يعني لهؤلاء الذين يصفون لله البنات ولأنفسهم البنين ( مثل السوء ) صفة السوء من الاحتياج إلى الولد ، وكراهية الإناث ، وقتلهن خوف الفقر ، ( ولله المثل الأعلى ) الصفة العليا ، وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو .
وقيل : جميع صفات الجلال والكمال ، من العلم ، والقدرة ، والبقاء ، وغيرها من الصفات .
قال ابن عباس : " مثل السوء " : النار ، و " المثل الأعلى " : شهادة أن لا إله إلا الله .
( وهو العزيز الحكيم )
( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ) فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم ، ( ما ترك عليها ) أي على الأرض ، كناية عن غير مذكور ، ( من دابة )
قال قتادة في الآية : قد فعل الله ذلك في زمن نوح ، فأهلك من على الأرض ، إلا من كان في سفينة نوح عليه السلام
روي أن أبا هريرة سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بئس ما قلت إن الحبارى تموت في وكرها بظلم الظالم .
وقال ابن مسعود : إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم .
وقيل : معنى الآية : لو يؤاخذ الله آباء الظالمين بظلمهم انقطع النسل ، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد .
( ولكن يؤخرهم إلى أجل ) يمهلهم بحلمه إلى أجل ، ( مسمى ) إلى منتهى آجالهم وانقطاع أعمارهم . ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )
قوله عز وجل : ( ويجعلون لله ما يكرهون ) لأنفسهم يعني البنات ، ( وتصف ) أي تقول ، ( ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) يعني البنين ، محل " أن " نصب بدل عن الكذب .
قال يمان : يعني ب " الحسنى " : الجنة في المعاد ، إن كان محمد صادقا في البعث .
( لا جرم ) حقا . قال ابن عباس : بلى ، ( أن لهم النار ) في الآخرة ، ( وأنهم مفرطون ) قرأ نافع بكسر الراء أي : مسرفون .
وقرأ أبو جعفر بتشديد الراء وكسرها أي : مضيعون أمر الله .
وقرأ الآخرون بفتح الراء وتخفيفها أي : منسيون في النار ، قاله ابن عباس .
وقال سعيد بن جبير : مبعدون .
وقال مقاتل : متروكون .
قال قتادة : معجلون إلى النار .
قال الفراء : مقدمون إلى النار ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا فرطكم على الحوض " أي : متقدمكم .
( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ) كما أرسلنا إلى هذه الأمة ، ( فزين لهم الشيطان أعمالهم ) الخبيثة ، ( فهو وليهم ) ناصرهم ، ( اليوم ) وقرينهم ، سماه وليا لهم ، لطاعتهم إياه ، ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة
( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ) من الدين والأحكام ، ( وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) أي : ما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانا وهدى ورحمة ، فالهدى والرحمة عطف على قوله " لتبين " .
( والله أنزل من السماء ماء ) يعني المطر : ( فأحيا به الأرض ) بالنبات ، ( بعد موتها ) يبوستها ، ( إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) سمع القلوب لا سمع الآذان .
( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) لعظة ، ( نسقيكم ) بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين ، قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب والباقون بضمها وهما لغتان . ( مما في بطونه ) قال الفراء : رد الكناية إلى النعم ، والنعم والأنعام واحد .
ولفظ النعم مذكر ، قال أبو عبيدة ، والأخفش : النعم يذكر ويؤنث ، فمن أنث فلمعنى الجمع ، ومن ذكر فلحكم اللفظ .
قال الكسائي : رده إلى " ما " يعني في بطون ما ذكرنا .
وقال المؤرج : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال نسقيكم مما في بطونه اللبن ، إذ ليس لكلها لبن ، واللبن فيه مضمر .
( من بين فرث ) وهو ما في الكرش من الثقل ، فإذا خرج منه لا يسمى فرثا ، ( ودم لبنا خالصا ) من الدم والفرث ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث .
( سائغا للشاربين ) هنيئا يجري على السهولة في الحلق .
وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط .
قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف واستقر في كرشها وطحنته فكان أسفله فرثا ، وأوسطه اللبن ، وأعلاه الدم ، والكبد مسلطة عليها ، تقسمها بتقدير الله تعالى ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو .
( ومن ثمرات النخيل والأعناب ) يعني : ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ، ( تتخذون منه ) والكناية في ( منه ) عائدة إلى " ما " محذوفة أي : ما تتخذون منه ، ( سكرا ورزقا حسنا )
قال قوم : " السكر " : الخمر ، و " الرزق الحسن " : الخل ، والزبيب ، والتمر والرب ، قالوا : وهذا قبل تحريم الخمر . وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد .
وقال الشعبي : " السكر " : ما شربت و " الرزق الحسن " : ما أكلت .
وروى العوفي عن ابن عباس : أن " السكر " هو الخل ، بلغة الحبشة .
وقال بعضهم : " السكر " النبيذ المسكر ، وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير ، وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ .
ومن حرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال .
وأولى الأقاويل أن قوله : ( تتخذون منه سكرا ) منسوخ ، روي عن ابن عباس قال : " السكر " [ ما حرم ] من ثمرها ، و " الرزق الحسن " : ما أحل .
وقال أبو عبيدة : " السكر " : الطعم ، يقال هذا سكر لك أي : طعم .
( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )
( وأوحى ربك إلى النحل ) أي : ألهمها وقذف في أنفسها ، ففهمته ، والنحل : زنابير العسل ، واحدتها نحلة .
( أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ) يبنون ، وقد جرت العادة أن أهلها يبنون لها الأماكن ، فهي تأوي إليها ، قال ابن زيد : هي الكروم .
( ثم كلي من كل الثمرات ) ليس معنى الكل العموم ، وهو كقوله تعالى : " وأوتيت من كل شيء " ( النمل - 23 ) .
( فاسلكي سبل ربك ذللا ) قيل : هي نعت الطرق ، يقول : هي مذللة للنحل سهلة المسالك .
قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان سلكته .
وقال آخرون : الذلل نعت النحل ، أي : مطيعة منقادة بالتسخير . يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت .
( يخرج من بطونها شراب ) يعني العسل ( مختلف ألوانه ) أبيض وأحمر وأصفر . ( فيه شفاء للناس ) أي : في العسل . وقال مجاهد : أي في القرآن ، والأول أولى .
أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، حدثنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال : اسقه عسلا قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك " فسقاه فبرأ .
قال عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .
وروي عنه أنه قال عليكم بالشفاءين القرآن والعسل .
( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) فيعتبرون .
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ) صبيانا أو شبانا أو كهولا ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) أردئه ، قال مقاتل : يعني الهرم .
قال قتادة : أرذل العمر تسعون سنة .
روي عن علي قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وقيل : ثمانون سنة .
( لكي لا يعلم بعد علم شيئا ) لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئا ، ( إن الله عليم قدير )
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، [ حدثنا موسى بن إسماعيل ] حدثنا هارون بن موسى ، حدثنا أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " أعوذ بك من البخل ، والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " .
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ) بسط عن واحد ، وضيق على الآخر ، وقلل وكثر .
( فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ) من العبيد ، ( فهم فيه سواء ) أي : حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك . يقول الله تعالى : لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم الله سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم به الحجة على المشركين .
قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل ، فهل منكم أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده؟
( أفبنعمة الله يجحدون ) بالإشراك به ، وقرأ أبو بكر بالتاء لقوله " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " ، والآخرون بالياء لقوله : " فهم فيه سواء " .
قوله تعالى : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) يعني : النساء ، خلق من آدم زوجته حواء . وقيل : " من أنفسكم " أي : من جنسكم أزواجا .
( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) قال ابن مسعود ، والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته .
وعن ابن مسعود أيضا : أنهم الأصهار ، فيكون معنى الآية على هذا القول : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات ، تزوجونهم فيحصل بسببهم الأختان والأصهار .
وقال عكرمة ، والحسن ، والضحاك : هم الخدم .
قال مجاهد : هم الأعوان ، من أعانك فقد حفدك .
وقال عطاء : هم ولد ولد الرجل ، الذين يعينونه ويخدمونه .
وقال قتادة : مهنة يمتهنونكم ويخدمونكم من أولادكم .
قال الكلبي ومقاتل : " البنين " : الصغار ، و " الحفدة " : كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله .
وروى مجاهد ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس : أنهم ولد الولد .
وروى العوفي عنه : أنهم بنو امرأة الرجل ليسوا منه .
( ورزقكم من الطيبات ) من النعم والحلال ، ( أفبالباطل ) يعني الأصنام ، ( يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) ؟ يعني التوحيد والإسلام .
وقيل : " الباطل " : الشيطان ، أمرهم بتحريم البحيرة ، والسائبة ، و " بنعمة الله " أي : بما أحل الله لهم " يكفرون " : يجحدون تحليله .
( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات ) يعني المطر ، ( والأرض ) يعني النبات ، ( شيئا ) قال الأخفش : هو بدل من الرزق ، معناه : أنهم لا يملكون من أمر الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا .
وقال الفراء : نصب " شيئا " بوقوع الرزق عليه ، أي : لا يرزق شيئا ، ( ولا يستطيعون ) ولا يقدرون على شيء ، يذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر .
( فلا تضربوا لله الأمثال ) يعني الأشباه . فتشبهونه بخلقه ، وتجعلون له شريكا ، فإنه واحد لا مثل له ، ( إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) خطأ ما تضربون من الأمثال .
ثم ضرب مثلا [ للكافرين والمؤمنين ] فقال جل ذكره : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) هذا مثل الكافر ، رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا ، ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ) هذا مثل المؤمن ، أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله ، وأنفقه في رضاء الله ، سرا وجهرا ، فأثابه الله عليه الجنة . ( هل يستوون ) ولم يقل يستويان لمكان " من " وهو اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع ، وكذلك قوله " لا يستطيعون " بالجمع لأجل ما .
معناه : هل يستوي هذا الفقير البخيل والغني السخي؟ كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن المطيع . وروى ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى : ( عبدا مملوكا ) أي : أبو جهل بن هشام ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) أبو بكر الصديق رضي الله عنه . ثم قال :
( الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) يقول ليس الأمر كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله عز وجل ، لأنه المنعم والخالق والرازق ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون .
ثم ضرب مثلا للأصنام فقال : ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ) كل : ثقل ووبال " على مولاه " ابن عمه ، وأهل ولايته ، ( أينما يوجهه ) يرسله ، ( لا يأت بخير ) لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا يفهم عنه ، هذا مثل الأصنام ، لا تسمع ، ولا تنطق ، ولا تعقل ، ( وهو كل على مولاه ) عابده ، يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويخدمه .
( هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) يعني : الله تعالى قادر ، متكلم ، يأمر بالتوحيد ، ( وهو على صراط مستقيم ) [ قال الكلبي : يعني يدلكم على صراط مستقيم .
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .
وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطية عن ابن عباس .
وقال عطاء : الأبكم : أبي بن خلف ، ومن يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون
وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : نزلت في عثمان بن عفان ومولاه ، كان عثمان ينفق عليه ، وكان مولاه يكره الإسلام .
( ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة ) في قرب كونها ، ( إلا كلمح البصر ) إذا قال له : " كن " فيكون ، ( أو هو أقرب ) بل هو أقرب ، ( إن الله على كل شيء قدير ) نزلت في الكفار الذين يستعجلون القيامة استهزاء .
قوله عز وجل : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم ) قرأ الكسائي " بطون إمهاتكم " بكسر الهمزة ، وقرأ حمزة بكسر الميم والهمزة ، والباقون بضم الهمزة وفتح الميم ، ( لا تعلمون شيئا ) تم الكلام ، ثم ابتدأ فقال جل وعلا ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) لأن الله تعالى جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمهات ، وإنما أعطاهم العلم بعد الخروج ، ( لعلكم تشكرون ) نعمة الله .
( ألم يروا ) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، ويعقوب : بالتاء ، والباقون بالياء لقوله : " ويعبدون " . ( إلى الطير مسخرات ) مذللات ، ( في جو السماء ) وهو الهواء بين السماء والأرض . عن كعب الأحبار أن الطير ترتفع اثني عشر ميلا ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجو السكاك ، وفوق السكاك السماء ( ما يمسكهن ) في الهواء ( إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)
( والله جعل لكم من بيوتكم ) [ التي هي من الحجر والمدر ] ( سكنا ) أي : مسكنا تسكنونه ، ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ) يعني الخيام ، والقباب ، والأخبية ، والفساطيط من الأنطاع والأدم ( تستخفونها ) أي : يخف عليكم حملها ، ( يوم ظعنكم ) رحلتكم في سفركم ، قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ساكنة العين ، والآخرون بفتحها ، وهو أجزل اللغتين ، ( ويوم إقامتكم ) في بلدكم لا تثقل عليكم في الحالين .
( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ) يعني : أصواف الضأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، ( أثاثا ) قال ابن عباس : مالا . قال مجاهد : متاعا .
قال القتيبي : " الأثاث " : المال أجمع ، من الإبل والغنم والعبيد ، والمتاع .
وقال غيره : هو متاع البيت من الفرش والأكسية .
( ومتاعا ) بلاغا ينتفعون بها ، ( إلى حين ) يعني الموت . وقيل : إلى حين تبلى .
( والله جعل لكم مما خلق ظلالا ) تستظلون بها من شدة الحر ، وهي ظلال الأبنية والأشجار ، ( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) يعني : الأسراب ، والغيران ، واحدها كن ( وجعل لكم سرابيل ) قمصا من الكتان والقز ، والقطن ، والصوف ، ( تقيكم ) تمنعكم ، ( الحر ) قال أهل المعاني : أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه . ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) يعني : الدروع ، والبأس : الحرب ، يعني : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم .
( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) تخلصون له الطاعة .
قال عطاء الخراساني : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ، فقال : وجعل لكم من الجبال أكنانا ، وما جعل [ لهم ] من السهول أكثر وأعظم ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال : " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها " لأنهم كانوا أصحاب وبر ، وشعر ، وكما قال : " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " ( النور - 43 ) وما أنزل من الثلج أكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج . وقال : " تقيكم الحر " وما تقي من البرد أكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
( فإن تولوا ) فإن أعرضوا فلا يلحقك في ذلك عتب ولا ثمة تقصير ، ( فإنما عليك البلاغ المبين)
( يعرفون نعمة الله ) قال السدي يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( ثم ينكرونها ) يكذبون به .
وقال قوم : هي الإسلام .
وقال مجاهد ، وقتادة : يعني ما عد لهم من النعم في هذه السورة ، يقرون أنها من الله ، ثم إذا قيل لهم : تصدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ، ينكرونها فيقولون : ورثناها من آبائنا .
وقال الكلبي : هو أنه لما ذكر لهم هذه النعم قالوا : نعم ، هذه كلها من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا .
وقال عوف بن عبد الله : هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ، ولولا فلان لما كان كذا . ( وأكثرهم الكافرون ) الجاحدون .
قوله عز وجل : ( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ) يعني رسولا ( ثم لا يؤذن للذين كفروا ) في الاعتذار ، وقيل : في الكلام أصلا ( ولا هم يستعتبون ) يسترضون ، يعني : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون . وحقيقة المعنى في الاستعتاب : أنه التعرض لطلب الرضا ، وهذا الباب منسد في الآخرة على الكفار .
( وإذا رأى الذين ظلموا ) كفروا ، ( العذاب ) يعني جهنم ، ( فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون)
وإذا رأى الذين أشركوا ) يوم القيامة ، ( شركاءهم ) أوثانهم ، ( قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ) أربابا ونعبدهم ، ( فألقوا ) يعني الأوثان ، ( إليهم القول ) أي : قالوا لهم ، ( إنكم لكاذبون ) في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا .
( وألقوا ) يعني المشركين ( إلى الله يومئذ السلم ) استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا ، ( وضل ) وزال ، ( عنهم ما كانوا يفترون ) من أنها تشفع لهم .
( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) منعوا الناس عن طريق الحق ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) قال عبد الله : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال .
وقال سعيد بن جبير : حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال ، تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا .
وقال ابن عباس ومقاتل : يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش ، يعذبون بها : ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار .
وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير ، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها .
وقيل : يضاعف لهم العذاب . ( بما كانوا يفسدون ) في الدنيا بالكفر وصد الناس عن الإيمان .
( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ) يعني : نبيها من أنفسهم ، لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم منها .
( وجئنا بك ) يا محمد ، ( شهيدا على هؤلاء ) الذين بعثت إليهم .
( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا ) بيانا ، ( لكل شيء ) يحتاج إليه من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، ( وهدى ) من الضلالة ، ( ورحمة وبشرى ) بشارة ( للمسلمين )
قوله عز وجل : ( إن الله يأمر بالعدل ) بالإنصاف ، ( والإحسان ) إلى الناس .
وعن ابن عباس : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : أداء الفرائض .
وعنه : " الإحسان " : الإخلاص في التوحيد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " .
وقال مقاتل : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : العفو عن الناس .
( وإيتاء ذي القربى ) صلة الرحم .
( وينهى عن الفحشاء ) ما قبح من القول والفعل . وقال ابن عباس : الزنا ، ( والمنكر ) ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، ( والبغي ) الكبر والظلم .
وقال ابن عيينة : العدل استواء السر والعلانية ، و " الإحسان " أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، و " الفحشاء والمنكر " أن تكون علانيته أحسن من سريرته .
( يعظكم لعلكم تذكرون ) تتعظون .
قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه الآية .
وقال أيوب عن عكرمة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد : ( إن الله يأمر بالعدل ) إلى آخر الآية فقال له : يا ابن أخي أعد فأعاد عليه ، فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .
قوله تعالى : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) والعهد هاهنا هو : اليمين .
قال الشعبي : العهد يمين وكفارته كفارة يمين ، ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) تشديدها ، فتحنثوا فيها ، ( وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) شهيدا بالوفاء .
( إن الله يعلم ما تفعلون ) واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاما؟ .
قيل : نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم الله بالوفاء بها .
وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية .
ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) أي : من بعد غزله وإحكامه .
قال الكلبي ، ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها " ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم " وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها .
ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به .
( أنكاثا ) يعني أنقاضا واحدتها " نكث " وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلا كان أو حبلا .
( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : دخلا وخيانة وخديعة ، و " الدخل " ما يدخل في الشيء للفساد .
وقيل : " الدخل " و " الدغل " : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض .
( أن تكون ) أي : لأن تكون ، ( أمة هي أربى ) أي : أكثر وأعلى ، ( من أمة ) قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة . فنهاهم الله عن ذلك .
( إنما يبلوكم الله به ) يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) في الدنيا .
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) على ملة واحدة ، وهي الإسلام ، ( ولكن يضل من يشاء ) بخذلانه إياهم ، عدلا منه ، ( ويهدي من يشاء ) بتوفيقه إياهم ، فضلا منه ، ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) يوم القيامة .
( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا ) خديعة وفسادا ، ( بينكم ) فتغرون بها الناس ، فيسكنون إلى أيمانكم ، ويأمنون ، ثم تنقضونها ، ( فتزل قدم بعد ثبوتها ) فتهلكوا بعدما كنتم آمنين والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلت قدمه ، ( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ) قيل : معناه : سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد ، ( ولكم عذاب عظيم )
( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) يعني لا تنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عرضا قليلا من الدنيا ، ولكن أوفوا بها . ( إنما عند الله هو ) من الثواب لكم على الوفاء ، ( خير لكم إن كنتم تعلمون ) [ فضل ما بين العوضين ، ثم بين ذلك ] . فقال :
( ما عندكم ينفد ) أي : الدنيا وما فيها يفنى ، ( وما عند الله باق )
( ولنجزين ) [ قرأ أبو جعفر وابن كثير وعاصم بالنون والباقون بالياء ] ( الذين صبروا ) على الوفاء في السراء والضراء ، ( أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى " .
قوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال .
قال الحسن : هي القناعة .
وقال مقاتل بن حيان : يعني العيش في الطاعة .
قال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة .
وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة . ورواه عوف عن الحسن . وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .
( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
قوله سبحانه وتعالى : ( فإذا قرأت القرآن ) أي : أردت قراءة القرآن ( فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) كقوله تعالى : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " ( المائدة - 6 ) .
والاستعاذة سنة عند قراءة القرآن .
وأكثر العلماء على أن الاستعاذة قبل القراءة .
وقال أبو هريرة : بعدها .
ولفظه : أن يقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة ، سمعت عاصما عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، قال : فكبر ، فقال : الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرات ، [ والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ] اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ، ونفثه .
قال عمرو : ونفخه : الكبر ، ونفثه : الشعر ، وهمزه : الموتة ، والموتة الجنون ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به .
( إنه ليس له سلطان ) حجة وولاية ، ( على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) قال سفيان : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر .
( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) يطيعونه ويدخلون في ولايته ، ( والذين هم به مشركون ) أي : بالله مشركون . وقيل : الكناية راجعة إلى الشيطان ، ومجازه الذين هم من أجله مشركون بالله .
( وإذا بدلنا آية مكان آية ) يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر ، ( والله أعلم بما ينزل ) أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما يغير ويبدل من أحكامه ، ( قالوا إنما أنت ) يا محمد ، ( مفتر ) مختلق ، وذلك أن المشركين قالوا : إن محمدا يسخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، وينهاهم عنه غدا ، ما هو إلا مفتر ، يتقوله من تلقاء نفسه .
قال الله تعالى ( بل أكثرهم لا يعلمون ) حقيقة القرآن ، وبيان الناسخ من المنسوخ .
( قل نزله ) يعني القرآن ، ( روح القدس ) جبريل ، ( من ربك بالحق ) بالصدق ، ( ليثبت الذين آمنوا ) أي : ليثبت قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويقينا ، ( وهدى وبشرى للمسلمين)
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ) آدمي ، وما هو من عند الله ، واختلفوا في هذا البشر : قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة ، اسمه " بلعام " ، وكان نصرانيا ، أعجمي اللسان ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون إنما يعلمه " بلعام " .
وقال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاما لبني المغيرة يقال له " يعيش " وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه " يعيش " .
وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجم اللسان .
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني ، عبد لبعض بني الحضرمي ، يقال له " جبر " ، وكان يقرأ الكتب .
وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار ، ويكنى " أبا فكيهة " ، ويقال للآخر " جبر " وكانا يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وهما يقرآن ، فيقف ويستمع .
قال الضحاك : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما ويستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد منهما ، فنزلت هذه الآية .
قال الله تعالى تكذيبا لهم : ( لسان الذي يلحدون إليه ) أي يميلون ويشيرون إليه ، ( أعجمي ) " الأعجمي " الذي لا يفصح وإن كان ينزل بالبادية ، والعجمي منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحا ، والأعرابي البدوي ، والعربي منسوب إلى العرب ، وإن لم يكن فصيحا ، ( وهذا لسان عربي مبين ) فصيح وأراد باللسان القرآن ، والعرب تقول : اللغة لسان ، وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه .
( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ) لا يرشدهم الله ، ( ولهم عذاب أليم ) ثم أخبر الله تعالى أن الكفار هم المفترون .
فقال : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) لا محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : قد قال : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون " ، فما معنى قوله " وأولئك هم الكاذبون " ؟ قيل : " إنما يفتري الكذب " : إخبار عن فعلهم ، " هم الكاذبون " نعت لازم لهم ، كقول الرجل لغيره : كذبت وأنت كاذب ، أي : كذبت في هذا القول ، ومن عادتك الكذب .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد الجوهري ، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن عمر بن حفص ، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق ، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يعلى بن الأشدق ، عن عبد الله بن جراد قال قلت : يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك ، قال قلت : المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك ، قلت المؤمن يكذب؟ قال : لا " . قال الله : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " .
( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره )
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار ، وذلك أن المشركين أخذوه ، وأباه ياسرا ، وأمه سمية ، وصهيبا ، وبلالا وخبابا ، وسالما ، فعذبوهم ، فأما سمية : فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت ، وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار : فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها .
قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر ميمون ، وقالوا له : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك ، وقلبه كاره ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك؟ قال : شر يا رسول الله ، نلت منك وذكرت آلهتهم قال : كيف وجدت قلبك ، قال مطمئنا بالإيمان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فنزلت هذه الآية .
قال مجاهد : نزلت في ناس من أهل مكة ، آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش في الطريق فكفروا كارهين .
وقال مقاتل : نزلت في جبر ، مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها . ( وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر جبر مع سيده ، ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) أي : فتح صدره للكفر بالقبول واختاره ، ( فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )
وأجمع العلماء على : أن من أكره على كلمة الكفر ، يجوز له أن يقول بلسانه ، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفرا ، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل .
واختلف أهل العلم في طلاق المكره . فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع .
( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) لا يرشدهم .
( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) عما يراد بهم .
( لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ) أي المغبونون .
( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ) عذبوا ومنعوا من الإسلام ، فتنهم المشركون ، ( ثم جاهدوا وصبروا ) على الإيمان والهجرة والجهاد ، ( إن ربك من بعدها ) من بعد تلك الفتنة والغفلة ( لغفور رحيم )
نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، أخي أبي جهل من الرضاعة ، وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي ، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا .
وقال الحسن وعكرمة : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزله الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة ، فاستجاره له عثمان ، وكان أخاه لأمه من الرضاعة ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه ، فأنزل الله هذه الآية .
وقرأ ابن عامر " فتنوا " بفتح الفاء والتاء ، ورده إلى من أسلم من المشركين فتنوا المسلمين .
( يوم تأتي كل نفس تجادل ) تخاصم وتحتج ، ( عن نفسها ) بما أسلفت من خير وشر ، مشتغلا بها لا تتفرغ إلى غيرها ، ( وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون )
روي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : خوفنا ، قال : يا أمير المؤمنين ، والذي نفسي بيده ، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك ساعات وأنت لا تهمك إلا نفسك ، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل منتخب ، إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إبراهيم خليل الرحمن ، يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ، وإن تصديق ذلك : الذي أنزل الله عليكم " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " .
وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب ، لم يكن لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها . ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، فجاء هذا كشعاع النور ، فبه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي . فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد ، دخلا حائطا فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثمر ، والمقعد لا يناله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب .
قوله تعالى ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة ) يعني : مكة ، كانت آمنة ، لا يهاج أهلها ولا يغار عليها ، ( مطمئنة ) قارة بأهلها ، لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليه سائر العرب ، ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) يحمل إليها من البر والبحر نظيره : " يجبى إليه ثمرات كل شيء " ( القصص - 57 ( فكفرت بأنعم الله ) جمع النعمة ، وقيل : جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس ، ( فأذاقها الله لباس الجوع ) ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميتة ، والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا عاديت الرجال ، فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون . وذكر اللباس لأن ما أصابهم من الهزال والشحوب وتغير ظاهرهم عما كانوا عليه من قبل كاللباس لهم ( والخوف ) يعني : بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم . ( بما كانوا يصنعون )
( ولقد جاءهم رسول منهم ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون )
( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ) .
" إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم "
قوله تعالى ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ) أي : لا تقولوا لوصف ألسنتكم ، أو لأجل وصفكم الكذب ، أي : أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره ، ( هذا حلال وهذا حرام ) يعني البحيرة والسائبة ، ( لتفتروا على الله الكذب ) فتقولون إن الله أمرنا بهذا ، ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) لا ينجون من عذاب الله .
( متاع قليل ) يعني : الذي هم فيه متاع قليل ، أو لهم متاع قليل في الدنيا . ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة .
( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ) يعني في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى :
" وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " ( الأنعام - 146 ) الآية .
( وما ظلمناهم ) بتحريم ذلك عليهم ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) فحرمنا عليهم ببغيهم .
( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) معنى الإصلاح : الاستقامة على التوبة ، ( إن ربك من بعدها ) أي : من بعد الجهالة ، ( لغفور رحيم )
قوله تعالى " ( إن إبراهيم كان أمة ) قال ابن مسعود : الأمة ، معلم الخير ، أي : كان معلما للخير ، يأتم به أهل الدنيا ، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة .
قال مجاهد : كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار .
قال قتادة : ليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضونه .
( قانتا لله ) مطيعا له ، وقيل : قائما بأوامر الله تعالى ، ( حنيفا ) مسلما مستقيما على دين الإسلام . وقيل : مخلصا . ( ولم يك من المشركين )
( شاكرا لأنعمه اجتباه ) اختاره ، ( وهداه إلى صراط مستقيم ) أي : إلى دين الحق .
( وآتيناه في الدنيا حسنة ) يعني الرسالة والخلة وقيل : لسان الصدق والثناء الحسن .
وقال مقاتل بن حيان : يعني الصلوات ، في قول هذه الأمة : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم .
وقيل : أولادا أبرارا على الكبر .
وقيل : القبول العام في جميع الأمم .
( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) مع آبائه الصالحين في الجنة . وفي الآية تقديم وتأخير ، مجازه : وآتيناه في الدنيا والآخرة حسنة ، وإنه لمن الصالحين .
( ثم أوحينا إليك ) يا محمد ، ( أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) حاجا مسلما ، ( وما كان من المشركين )
وقال أهل الأصول : كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته ، وما لم ينسخ صار شرعا له .
قوله تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) قيل : معناه إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه أي : خالفوا فيه .
وقيل : معناه ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه أي : خالفوا فيه فقال قوم : هو أعظم الأيام ، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت .
وقال قوم : بل أعظم الأيام يوم الأحد ، لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الأشياء ، فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم ، وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة .
قال الكلبي : أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة ، فقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه لصنعتكم ، وستة أيام لصناعتكم ، فأبوا وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت ، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة ، فقالوا لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا - يعنون اليهود - فاتخذوا الأحد فأعطى الله الجمعة هذه الأمة ، فقبلوها وبورك لهم فيها .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، فاليهود غدا ، والنصارى بعد غد " .
قال الله تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) قال قتادة : الذين اختلفوا فيه هم اليهود ، استحله بعضهم ، وحرمه بعضهم .
( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) بالقرآن ، ( والموعظة الحسنة ) يعني مواعظ القرآن .
وقيل : الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب .
وقيل : هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف .
( وجادلهم بالتي هي أحسن ) وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن ، أي : أعرض عن أذاهم ، ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق ، نسختها آية القتال .
( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )
( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ، ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، فأنزل الله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا ) الآية . ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه .
قال ابن عباس والضحاك : كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله نزلت براءة ، وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية .
وقال النخعي ، والثوري ، ومجاهد ، وابن سيرين : الآية محكمة نزلت في من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه ، أمر بالجزاء والعفو ، ومنع من الاعتداء . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :
( واصبر وما صبرك إلا بالله ) أي : بمعونة الله وتوفيقه ، ( ولا تحزن عليهم ) في إعراضهم عنك ، ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) أي : فيما فعلوا من الأفاعيل .
قرأ ابن كثير هاهنا وفي النمل ( ضيق ) بكسر الضاد وقرأ الآخرون بفتح الضاد ، قال أهل الكوفة : هما لغتان مثل رطل ورطل .
وقال أبو عمرو : " الضيق " بالفتح : الغم ، وبالكسر : الشدة .
وقال أبو عبيدة : " الضيق " بالكسر في قلة المعاش وفي المساكن ، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح .
وقال ابن قتيبة : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ، ولين ولين ، فعلى هذا هو صفة ، كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق من مكرهم .
( إن الله مع الذين اتقوا ) المناهي ، ( والذين هم محسنون ) بالعون والنصرة .
![]() |
![]() |
![]() |
![](/images/arrowtop.jpg)
اسم السورة | سورة النحل (An-Nahl - The Bee) |
ترتيبها | 16 |
عدد آياتها | 128 |
عدد كلماتها | 1845 |
عدد حروفها | 7642 |
معنى اسمها | (النَّحْلُ): الْحَشَرَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَمُفْرَدُهَا النَّحْلَةُ، تُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى |
سبب تسميتها | انْفِرَادُ السُّورَةِ بِذِكْرِ مُفْرَدَةِ (النَّحْلِ)، وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى الْمَقْصِدِ الْعَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا |
أسماؤها الأخرى | اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (النَّحْلِ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (النِعَم) |
مقاصدها | التَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى الْكَثِيرَةِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْكُفْرِ بِهَا |
أسباب نزولها | سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ |
فضلها | لَم يَصِحَّ حَدِيثٌ أَو أَثَرٌ خَاصٌّ فِي فَضلِ السُّورَةِ سِوَى أَنَّهَا مِنَ المِئِينِ |
مناسبتها | مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (النَّحْلِ) بِِآخِرِهَا: الأَمْرُ بِالتَّقْوَى والْحَدِيثُ عَنْ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ، فقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ ٢﴾، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ ١٢٨﴾. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (النَّحْلِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الحِجْرِ): خُتِمَتِ (الحِجْرُ) بِتَوجِيهِ النَّبِيِّ ﷺ بِمُدَاوَمَةِ العِبَادَةِ حتَّى يَنْقَضِيَ أَجَلُهُ، فَقَالَ: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾، وَافتُتِحَتِ (النَّحْلُ) بِقَضَاءِ أَمْرِ اللهِ وَعَدَمِ اسْتِعْجَالِهِ؛ فَقَالَ: ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١﴾. |