الفتوحات المكية

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة المائدة: [الآية 20]

سورة المائدة
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴿20﴾

تفسير الجلالين:

«و» اذكر «إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم» أي منكم «أنبياء وجعلكم ملوكا» أصحاب خدم وحشم «وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين» من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك.

تفسير الشيخ محي الدين:

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119 « (

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» فلا يؤثر فيهم عوارض يوم القيامة ، بل تخاف الناس ولا يخافون ، وتحزن الناس ولا يحزنون . . .

[ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ] «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» فالرضى منا ومنه - الوجه الأول - رضي اللّه عنهم : بما أعطوه من بذل المجهود ، وغير بذل المجهود «وَرَضُوا عَنْهُ» بما أعطاهم مما يقتضي الوجود الجود أكثر من ذلك ، لكن العلم والحكمة غالبة - الوجه الثاني - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» : بما أعطاه العبد من نفسه رضي اللّه به ، ورضي عنه فيه وإن لم يبذل استطاعته ، فرضي اللّه منك إذا أعطيت ما كلفك حد الاستطاعة التي لا حرج عليك فيها «وَرَضُوا عَنْهُ» رضي العبد من اللّه بالذي أعطاه من حال الدنيا ورضي عن اللّه في ذلك ، فإن متعلق الرضى القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلا بد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك ، بما أعطيته منك ، وهو يعلم أن الاستطاعة فوق ما أعطيته - الوجه الثالث - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» في يسير العمل «وَرَضُوا عَنْهُ» في يسير الثواب ، لأنه لا يتمكن تحصيل ما لا يتناهى في الوجود ، لأنه لا يتناهى ، فإن كل ما أعطاك الحق في الدنيا والآخرة من الخير والنعم فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو متناه بحصوله ، وما قدم اللّه رضاه عن عبيده ، بما قبله من اليسير من أعمالهم التي كلفهم إلا ليرضوا عنه في يسير الثواب ، لما علموا أن عنده ما هو أكثر من الذي وصل إليهم . - الوجه الرابع - أخبرهم في التوقيع أنه عنهم راض تعالى وتقدس جلاله ، ثم أنه ناب عنهم في الخطاب بأنهم عنه راضون ، فقال تعالى : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .

وهنا نكتة لمن فهم ما تدل عليه ألفاظ القرآن من الرضى فقطع عليهم بذلك لعلمه بأنه واقع

منهم[ تحقيق الرضا ]

- تحقيق الرضا - اعلم أن اللّه تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإنه إذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضى به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، فلما أطلق الرضا علمنا أنه أراد الإجمال ، والقدر توقيت الحكم ، فكل شيء بقضاء وقدر ، أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، وإنما قلنا : يجب الإيمان به أنه شر كما يجب الإيمان بالخير أنه خير ، فنقول : إنه يجب علي الإيمان بالشر أنه شر ، وأنه ليس إلى اللّه من كونه شرا ، لا من كونه عين وجود إن كان الشر أمرا وجوديا ، فمن حيث وجوده أي وجود عينه هو إلى اللّه ، ومن كونه شرا ليس إلى اللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه : والشر ليس إليك ، فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه .

------------

(119) الفتوحات ج 2 / 222 - ج 4 / 351 ، 432 - ج 2 / 212 - ج 4 / 351 - ج 2 / 212 - ج 4 / 27 ، 18 - ج 2 / 212

تفسير ابن كثير:

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام ، فيما ذكر به قومه نعم الله عليهم وآلاءه لديهم ، في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة ، فقال تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء ) أي : كلما هلك نبي قام فيكم نبي ، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده . وكذلك كانوا ، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته ، حتى ختموا بعيسى عليه السلام ، ثم أوحى الله [ تعالى ] إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وجعلكم ملوكا ) قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس في قوله : ( وجعلكم ملوكا ) قال : الخادم والمرأة والبيت .

وروى الحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري أيضا ، عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : المرأة والخادم ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ ، ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكا .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو هانئ ; أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم . قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . فقال : إن لي خادما . قال فأنت من الملوك .

وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار ؟

رواه ابن جرير . ثم روي عن منصور والحكم ومجاهد وسفيان الثوري نحوا من هذا . وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران .

وقال ابن شوذب : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم ، واستؤذن عليه ، فهو ملك .

وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم .

وقال السدي في قوله : ( وجعلكم ملوكا ) قال : يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة ، كتب ملكا " .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقال ابن جرير : حدثنا الزبير بن بكار حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض [ قال ] سمعت زيد بن أسلم يقول : ( وجعلكم ملوكا ) فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان له بيت وخادم فهو ملك " .

وهذا مرسل غريب . وقال مالك : بيت وخادم وزوجة .

وقد ورد في الحديث : " من أصبح منكم معافى في جسده ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " .

وقوله : ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) يعني عالمي زمانكم ، فكأنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم ، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين ) [ الجاثية : 16 ] وقال تعالى إخبارا عن موسى لما قالوا : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ) [ الأعراف : 138 - 140 ]

والمقصود : أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم ، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم ، وأفضل عند الله ، وأكمل شريعة ، وأقوم منهاجا ، وأكرم نبيا ، وأعظم ملكا ، وأغزر أرزاقا ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأوسع مملكة ، وأدوم عزا ، قال الله [ عز وجل ] ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] وقال ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) [ البقرة : 143 ] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله ، عند قوله عز وجل : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) من سورة آل عمران .

وروى ابن جرير عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله : ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله : ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) مع هذه الأمة . والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا .

وقيل : المراد : ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) يعني بذلك : ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى ، وتظللهم من الغمام وغير ذلك ، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات ، فالله أعلم .


تفسير الطبري :

قوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه؛ فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام، وهو تسلية له؛ أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى. وروي عن عبدالله بن كثير أنه قرأ {يا قوم اذكروا} بضم الميم، وكذلك ما أشبهه؛ وتقديره يا أيها القوم. {إذ جعل فيكم أنبياء} لم ينصرف؛ لأنه فيه ألف التأنيث. {وجعلكم ملوكا} أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذكم منه بالغرق؛ فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما. قال السدي : ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله. وقال قتادة : إنما قال {وجعلكم ملوكا} لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم. قال ابن عطية : وهذا ضعيف؛ لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط. وقيل : جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن؛ روي معناه عن جماعة من أهل العلم. قال ابن عباس : إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك. وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك؛ وهو قول عبدالله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال : سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبدالله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم. قال : ألك منزل تسكنه؟ قال : نعم. قال : فأنت من الأغنياء. قال : فإن لي خادما. قال : فأنت من الملوك. قال ابن العربي : وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دار وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق. وقال ابن عباس ومجاهد : جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام، أي هم مخدومون كالملوك. وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل؛ وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيينة، وزادوا الزوجة؛ وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم : (من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك؛ ذكره النحاس. ويقال : من استغنى عن غيره فهو ملك؛ وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : (من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). قوله تعالى {وآتاكم} أي أعطاكم {ما لم يؤت أحدا من العالمين} والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين؛ وهو وجه الكلام. مجاهد : والمراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام. وقيل : كثرة الأنبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم. وقيل : قلوبا سليمة من الغل والغش. وقيل : إحلال الغنائم والانتفاع بها. قلت : وهذا القول مردود؛ فإن الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة على ما ثبت في الصحيح؛ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنقذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه. ومعنى {من العالمين} أي عالمي زمانكم؛ عن الحسن. وقال ابن جبير وأبو مالك : الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله. وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين. و{المقدسة} معناه المطهرة. مجاهد : المباركة؛ والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه. قتادة : هي الشام. مجاهد : الطور وما حوله. ابن عباس والسدي وابن زيد : هي أريحاء. قال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض : الأردن. وقول قتادة يجمع هذا كله. {التي كتب الله لكم} أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم. ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا : لا علم لنا بتلك الديار؛ فبعث بأمر الله اثني عشر نقيبا، من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة؛ حتى قيل : إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال : إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ فقال لهم الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا؛ على ما تقدم. وقيل : إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل : حمله رجل واحد، وقيل : حمله النقباء الاثنا عشر. قلت : وهذا أشبه؛ فإنه يقال : إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة. قلت : ولا تعارض بين هذا والأول؛ فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال : في حجره - هو عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا؛ على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى. وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصف في قول مقاتل. وقال الكلبي : كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا، والله أعلم. فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوفنا، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم. قوله تعالى {ولا ترتدوا على أدباركم} أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين. وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته، والمعنى واحد. قوله تعالى {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين} أي عظام الأجسام طوال، وقد تقدم؛ يقال : نخلة جبارة أي طويلة. والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر. وقال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد؛ فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه؛ فإنه يجبر غيره على ما يريده؛ وأجبره أي أكرهه. وقيل : هو مأخوذ من جبر العظم؛ فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو بطل. وقيل : إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء : لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين؛ جبار من أجبر ودراك من أدرك. ثم قيل : كان هؤلاء من بقايا عاد. وقيل : هم من ولد عيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا؛ قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته. وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع؛ وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله. وقيل : بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة. ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم. وقال الكلبي : عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت. والله أعلم. قوله تعالى {وإنا لن ندخلها} يعني البلدة إيلياء، ويقال : أريحاء أي حتى يسلموها لنا من غير قتال. وقيل : قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان؛ فإنهم قالوا {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} قوله تعالى {قال رجلان من الذين يخافون} قال ابن عباس وغيره : هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا، وكانا من الاثني عشر نقيبا. و{يخافون} أي من الجبارين. قتادة : يخافون الله تعالى. وقال الضحاك : هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى؛ فمعنى {يخافون} على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله. وقيل : يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم. وقرأ مجاهد وابن جبير {يخافون} بضم الياء، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى. {أنعم الله عليهما} أي بالإسلام أو باليقين والصلاح. {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم؛ فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب. ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله. ثم قالا {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} مصدقين به؛ فإنه ينصركم. ثم قيل على القول الأول : لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة، وقالوا : نصدقكما وندع قول عشرة! ثم قالوا لموسى {إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها} وهذا عناد وحَيْدٌ عن القتال، وإِياسٌ من النصر. ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا {فاذهب أنت وربك فقاتلا} وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك. وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة؛ وهو معنى قول الحسن؛ لأنه قال : هو كفر منهم بالله، وهو الأظهر في معنى الكلام. وقيل : أي إن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا؛ فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر؛ لأنهم شكوا في رسالته. وقيل المعنى : اذهب أنت فقاتل وليعنك ربك. وقيل : أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه. وبالجملة فقد فسقوا بقولهم؛ لقوله تعالى {فلا تأس على القوم الفاسقين} أي لا تحزن عليهم. {إنا ههنا قاعدون} أي لا نبرح ولا نقاتل. ويجوز {قاعدين} على الحال؛ لأن الكلام قد تم قبله. قوله تعالى {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} لأنه كان يطيعه. وقيل المعنى : إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال {وأخي}. أي وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه؛ فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي، وعلى الثاني في موضع رفع، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء؛ أي إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا. وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال : لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} يقال : بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم؟ ففيه أجوبة؛ الأول : بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان؛ ولذلك ألقوا في التيه. الثاني : بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به؛ ومنه قوله تعالى {فيها يفرق كل أمر حكيم}{الدخان : 4] أي يقضي. وقد فعل لما أماتهم في التيه. وقيل : إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار؛ والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر : يا رب فافرق بينه وبيني ** أشد ما فرقت بين اثنين وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ {فافرق} بكسر الراء. قوله تعالى {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} استحباب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة. وأصل التيه في اللغة الحيرة؛ يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير. وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها؛ وأرض تيه وتيهاء ومنها قال : تيه أتاويه على السقاط وقال آخر : بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا ** الحزن قد كانت فراخا بيوضها فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل : في قدر ستة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا؛ فكانوا سيارة لا قرار لهم. واختلف هل كان معهم موسى وهارون؟ فقيل : لا؛ لأن التيه عقوبة، وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل، فقوبلوا على كل يوم سنة؛ وقد قال {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}. وقيل : كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم. ومعنى {محرمة} أي أنهم ممنوعون من دخولها؛ كما يقال : حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار؛ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، عن أكثر أهل التفسير؛ كما قال الشاعر : جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ** إني امرؤ صرعي عليك حرام أي أنا فارس فلا يمكنك صرعي. وقال أبو علي : يجوز أن يكون تحريم تعبد. ويقال : كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها؟ فالجواب : قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤوا منه. وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة. {أربعين} ظرف زمان للتيه؛ في قول الحسن وقتادة؛ قالا : ولم يدخلها أحد منهم؛ فالوقف على هذا على {عليهم}. وقال الربيع بن أنس وغيره : إن {أربعين سنة} ظرف للتحريم، فالوقف على هذا على {أربعين سنة}؛ فعلى الأول إنما دخلها أولادهم؛ قاله ابن عباس. ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها. وعلى الثاني : فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها. وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه. قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم؛ وكان ذلك دليلا على قبولها، فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته؛ فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال : فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال : عند الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب، فنزلت النار فأكلت الغنائم. وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون؛ فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز، عرف باسم الغال؛ وكان اسمه عاجزا. قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا، وقد تقدم حكمه في ملتنا. وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (غزا نبي من الأنبياء) الحديث أخرجه مسلم وفيه قال : (فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيل رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول) وذكر نحو ما تقدم. قال علماؤنا : والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم؛ فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة خبر موسى عليه الصلاة والسلام، على ما يقال. والله أعلم. وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : (فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا) ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا. وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها. وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي، وزاد وهارون؛ وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل؛ فقالوا : ما فعل هارون؟ فقال : مات؛ قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له، وكان محبا في بني إسرائيل؛ فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله؛ فانطلق بهم إلى قبره فنادي يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك؟ قال : لا؛ ولكني مت؛ قال : فعد إلى مضجعك؛ وانصرف. وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه. وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق. قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل. قلت : قد روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال {أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت} قال : فرد الله إليه عينه وقال {ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة} قال {أي رب ثم مه}، قال {ثم الموت} قال {فالآن}؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال؛ منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له. ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف الموت، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال {يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت} فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضا قوله في الرواية الأخرى {أجب ربك} يدل على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته؛ وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت. قال ابن العربي : وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من (أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخبره) فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم. والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غنية عنها. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة؛ فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت؟ فقال {كشاة تسلخ وهي حية}. وهذا صحيح معنى؛ قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (إن للموت سكرات) على ما بيناه في كتاب [التذكرة]. وقوله {فلا تأس على القوم الفاسقين} أي لا تحزن. والأسى الحزن؛ أسي يأسى أي حزن، قال : يقولون لا تهلك أسى وتحمل

التفسير الميسّر:

واذكر -أيها الرسول- إذ قال موسى عليه السلام لقومه: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكًا تملكون أمركم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه، وقد منحكم من نعمه صنوفًا لم يمنحها أحدًا من عالَمي زمانكم.

تفسير السعدي

لما امتن الله على موسى وقومه بنجاتهم من فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم، ذهبوا قاصدين لأوطانهم ومساكنهم، وهي بيت المقدس وما حواليه، وقاربوا وصول بيت المقدس، وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليه السلام؛ وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم: { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة، { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ } يدعونكم إلى الهدى، ويحذرونكم من الردى، ويحثونكم على سعادتكم الأبدية، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون { وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } تملكون أمركم، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم، فكنتم تملكون أمركم، وتتمكنون من إقامة دينكم. { وَآتَاكُمْ } من النعم الدينية والدنيوية { مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ } فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق، وأكرمهم على الله تعالى. وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم. فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية، الداعي ذلك لإيمانهم وثباته، وثباتهم على الجهاد، وإقدامهم عليه، ولهذا قال:


تفسير البغوي

قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء ) [ أي : منكم أنبياء ] ( وجعلكم ملوكا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أصحاب خدم وحشم ، قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم . وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا " .

وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم . قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادما ، قال : فأنت من الملوك .

قال السدي : وجعلكم ملوكا أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم ، قال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) يعني عالمي زمانكم ، قال مجاهد : يعني المن والسلوى والحجر وتظليل الغمام .


الإعراب:

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) قال فعل ماض تعلق به الجار والمجرور وموسى فاعله والجملة في محل جر بالإضافة وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل محذوف تقديره: اذكر (يا قَوْمِ) منادى مضاف منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) اذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة مفعول به وعليكم متعلقان بنعمة ولفظ الجلالة مضاف إليه والجملة مقول القول (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) فيكم متعلقان بجعل وهما المفعول الأول وأنبياء المفعول الثاني والظرف إذ متعلق بنعمة والجملة في محل جر بالإضافة (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) الكاف مفعول أول وملوكا مفعول ثان والجملة معطوفة (وَآتاكُمْ ما) اسم الموصول ما هو المفعول الثاني لآتاكم والجملة معطوفة (لَمْ يُؤْتِ أَحَداً) يؤت مضارع مجزوم بحذف حرف العلة وفاعله هو وأحدا مفعوله والجملة صلة الموصول (مِنَ الْعالَمِينَ) متعلقان بمحذوف صفة أحد.

---

Traslation and Transliteration:

Waith qala moosa liqawmihi ya qawmi othkuroo niAAmata Allahi AAalaykum ith jaAAala feekum anbiyaa wajaAAalakum mulookan waatakum ma lam yuti ahadan mina alAAalameena

بيانات السورة

اسم السورة سورة المائدة (Al-Maidah - The Table Spread)
ترتيبها 5
عدد آياتها 120
عدد كلماتها 2837
عدد حروفها 11892
معنى اسمها (المَائِدَةُ): الخِوانُ - أَو الطَّاوِلَةُ - يُوضَعُ عَلَيهَا الطَّعامُ وَالشَّرَابُ، وَتُطْلَقُ المَائِدَةُ عَلَى الطَّعَامِ نَفْسِهِ
سبب تسميتها انفِرَادُ السُّورَةِ بِذِكْرِ قِصَّةِ نُزُولِ المَائِدَةِ التِي طَلَبَهَا الحَوَارِيُّونَ مِنْ عِيسَى عليه السلام، وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلى المَقْصِدِ العَامِّ للسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (المَائِدَةِ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (العُقُودِ)، وَسُورَةَ (المُنقِذَةِ)، وَسُورَةَ (الأَحْبَارِ)
مقاصدها الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها نَزَلَتْ بِكَيْفِيَّةٍ فَرِيدَةٍ لِأَهَمِيَّتِهَا، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: «أُنزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وهو رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا». (حَدِيثٌ صَحيحٌ، رَوَاهُ أَحمَدُ). هِيَ مِنَ السَّبعِ، قَالَ ﷺ: «مَن أخَذَ السَّبعَ الْأُوَلَ منَ القُرآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» أَيْ: عَالِم. (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحمَد)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (المَائدةِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنْ الصِّدقِ فِي الوَفَاءِ بِالعُقُودِ وَعَاقِبَةِ الصِّدْقِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ ...١﴾ ...الآيَاتِ، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ ...١١٩﴾ ...الآيَاتِ. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (الْمَائِدَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (النِّسَاءِ): اخْتُتِمَتِ (النِّسَاءُ) بِأَحْكَامِ المَوَارِيثِ وافْتُتِحَتِ (المَائِدَةُ) بِأحْكَامِ العُقُودِ، وكِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ العَلَاقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الإِسْلَامِ.
اختر الًجزء:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
اختر السورة:
1 - ﴿الفاتحة﴾
2 - ﴿البقرة﴾
3 - ﴿آل عمران﴾
4 - ﴿النساء﴾
5 - ﴿المائدة﴾
6 - ﴿الأنعام﴾
7 - ﴿الأعراف﴾
8 - ﴿الأنفال﴾
9 - ﴿التوبة﴾
10 - ﴿يونس﴾
11 - ﴿هود﴾
12 - ﴿يوسف﴾
13 - ﴿الرعد﴾
14 - ﴿إبراهيم﴾
15 - ﴿الحجر﴾
16 - ﴿النحل﴾
17 - ﴿الإسراء﴾
18 - ﴿الكهف﴾
19 - ﴿مريم﴾
20 - ﴿طه﴾
21 - ﴿الأنبياء﴾
22 - ﴿الحج﴾
23 - ﴿المؤمنون﴾
24 - ﴿النور﴾
25 - ﴿الفرقان﴾
26 - ﴿الشعراء﴾
27 - ﴿النمل﴾
28 - ﴿القصص﴾
29 - ﴿العنكبوت﴾
30 - ﴿الروم﴾
31 - ﴿لقمان﴾
32 - ﴿السجدة﴾
33 - ﴿الأحزاب﴾
34 - ﴿سبأ﴾
35 - ﴿فاطر﴾
36 - ﴿يس﴾
37 - ﴿الصافات﴾
38 - ﴿ص﴾
39 - ﴿الزمر﴾
40 - ﴿غافر﴾
41 - ﴿فصلت﴾
42 - ﴿الشورى﴾
43 - ﴿الزخرف﴾
44 - ﴿الدخان﴾
45 - ﴿الجاثية﴾
46 - ﴿الأحقاف﴾
47 - ﴿محمد﴾
48 - ﴿الفتح﴾
49 - ﴿الحجرات﴾
50 - ﴿ق﴾
51 - ﴿الذاريات﴾
52 - ﴿الطور﴾
53 - ﴿النجم﴾
54 - ﴿القمر﴾
55 - ﴿الرحمن﴾
56 - ﴿الواقعة﴾
57 - ﴿الحديد﴾
58 - ﴿المجادلة﴾
59 - ﴿الحشر﴾
60 - ﴿الممتحنة﴾
61 - ﴿الصف﴾
62 - ﴿الجمعة﴾
63 - ﴿المنافقون﴾
64 - ﴿التغابن﴾
65 - ﴿الطلاق﴾
66 - ﴿التحريم﴾
67 - ﴿الملك﴾
68 - ﴿القلم﴾
69 - ﴿الحاقة﴾
70 - ﴿المعارج﴾
71 - ﴿نوح﴾
72 - ﴿الجن﴾
73 - ﴿المزمل﴾
74 - ﴿المدثر﴾
75 - ﴿القيامة﴾
76 - ﴿الإنسان﴾
77 - ﴿المرسلات﴾
78 - ﴿النبأ﴾
79 - ﴿النازعات﴾
80 - ﴿عبس﴾
81 - ﴿التكوير﴾
82 - ﴿الانفطار﴾
83 - ﴿المطففين﴾
84 - ﴿الانشقاق﴾
85 - ﴿البروج﴾
86 - ﴿الطارق﴾
87 - ﴿الأعلى﴾
88 - ﴿الغاشية﴾
89 - ﴿الفجر﴾
90 - ﴿البلد﴾
91 - ﴿الشمس﴾
92 - ﴿الليل﴾
93 - ﴿الضحى﴾
94 - ﴿الشرح﴾
95 - ﴿التين﴾
96 - ﴿العلق﴾
97 - ﴿القدر﴾
98 - ﴿البينة﴾
99 - ﴿الزلزلة﴾
100 - ﴿العاديات﴾
101 - ﴿القارعة﴾
102 - ﴿التكاثر﴾
103 - ﴿العصر﴾
104 - ﴿الهمزة﴾
105 - ﴿الفيل﴾
106 - ﴿قريش﴾
107 - ﴿الماعون﴾
108 - ﴿الكوثر﴾
109 - ﴿الكافرون﴾
110 - ﴿النصر﴾
111 - ﴿المسد﴾
112 - ﴿الإخلاص﴾
113 - ﴿الفلق﴾
114 - ﴿الناس﴾
اختر الًصفحة:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140
141
142
143
144
145
146
147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
169
170
171
172
173
174
175
176
177
178
179
180
181
182
183
184
185
186
187
188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
250
251
252
253
254
255
256
257
258
259
260
261
262
263
264
265
266
267
268
269
270
271
272
273
274
275
276
277
278
279
280
281
282
283
284
285
286
287
288
289
290
291
292
293
294
295
296
297
298
299
300
301
302
303
304
305
306
307
308
309
310
311
312
313
314
315
316
317
318
319
320
321
322
323
324
325
326
327
328
329
330
331
332
333
334
335
336
337
338
339
340
341
342
343
344
345
346
347
348
349
350
351
352
353
354
355
356
357
358
359
360
361
362
363
364
365
366
367
368
369
370
371
372
373
374
375
376
377
378
379
380
381
382
383
384
385
386
387
388
389
390
391
392
393
394
395
396
397
398
399
400
401
402
403
404
405
406
407
408
409
410
411
412
413
414
415
416
417
418
419
420
421
422
423
424
425
426
427
428
429
430
431
432
433
434
435
436
437
438
439
440
441
442
443
444
445
446
447
448
449
450
451
452
453
454
455
456
457
458
459
460
461
462
463
464
465
466
467
468
469
470
471
472
473
474
475
476
477
478
479
480
481
482
483
484
485
486
487
488
489
490
491
492
493
494
495
496
497
498
499
500
501
502
503
504
505
506
507
508
509
510
511
512
513
514
515
516
517
518
519
520
521
522
523
524
525
526
527
528
529
530
531
532
533
534
535
536
537
538
539
540
541
542
543
544
545
546
547
548
549
550
551
552
553
554
555
556
557
558
559
560
561
562
563
564
565
566
567
568
569
570
571
572
573
574
575
576
577
578
579
580
581
582
583
584
585
586
587
588
589
590
591
592
593
594
595
596
597
598
599
600
601
602
603
604


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!