المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الجن: [الآية 6]
سورة الجن | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
«لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» فكأنه مستثنى ، منقطع هذا الغيب من ذلك الغيب انقطاعا حقيقيا لا انقطاع جزء من كل ، لما وقع الاشتراك في لفظة الغيب ، لذلك قلن:
مستثنى ، ولما خالفه في الحقيقة قلنا : منقطع ، ولكن بالحال بالذات ، تقول في المتصل:
ما في الدار إنسان إلا زيدا ، فهذا المستثنى متصل ، لأنه إنسان قد فارق غيره من الأناسي بحالة كونه في الدار لا بحقيقته ، إذ لم يكن في الدار إلا هو ،
فالانقطاع في الحال لا غير ، فإن قلت : ما في الدار إنسان إلا حمارا ، فهذا منقطع بالحقيقة والحال ، فكذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسل بالرصد من الملائكة من أجل المردة من الشياطين هو الرسالة التي يبلغونها عن اللّه ، فإنه لا يحيط من علم غيب اللّه إلا بما شاء اللّه ، ولهذا قال «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُو
رِسالاتِ رَبِّهِمْ» فأضاف الرسالة إلى قوله «رَبِّهِمْ» لما علموا أن الشياطين لم تلق إليهم أعني إلى الرسل شيئا ، فتيقنوا أن تلك الرسالة من اللّه لا من غيره ، وهل هذا القدر الذي عبر عنه في هذه السورة المعينة في قوله «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» هل ذلك الإعلام لهذا الرسول بوساطة الملك ؟ أو لم يكن في هذا الوحي الخاص ملك ؟
وهو الأظهر والأوجه والأولى ، وتكون الملائكة تحف أنوارها برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كالهالة حول القمر ، والشياطين من ورائها لا تجد سبيلا إلى هذا الرسول حتى يظهر اللّه له في إعلامه ذلك من الوحي ما شاء ، ولكن من علم التكليف الذي غاب عنه وعن العباد علمه ، فإنه لا يصح القول بأن العبد يعلم بعض القربات إلى اللّه بعقله لا كلها ، فلا يعلم القربة إلى اللّه التي تعطي سعادة الأبد للعبد إلا من يعلم ما في نفس الحق ، ولا يعلم ذلك أحد من خلق اللّه إلا بإعلام اللّه ، لأن الغيب على قسمين :
غيب لا يعلم أبدا وليس إلا هوية الحق، ونسبته إلينا ، وأما نسبتنا إليه فدون ذلك ، فهذا غيب لا يمكن ولا يعلم أبدا ،
والقسم الآخر غيب إضافي ، فما هو مشهود لأحد قد يكون غيبا لآخر، فما في الوجود غيب أصلا لا يشهده أحد ، وأدقه أن يشهد الموجود نفسه الذي هو غيب عن كل أحد سوى نفسه ، فما ثم غيب إلا وهو مشهود في حال غيبته عمن ليس بمشاهد له ، فإذا ارتضى اللّه من ارتضاه لعلم ذلك أطلعه عليه علما ، لا ظنا ولا تخمينا ، فلا يعلم إلا بإعلام اللّه ، أو بإعلام من أعلمه اللّه عند من يعتقد فيه أن اللّه أعلمه ، وما عدا هذا فلا علم له بغيب أصلا ، وإنما اختص بهذا الإعلام مسمى «الرسول» لأنه ما أعلمه بذلك الغيب اقتصارا عليه ، وإنما أعلمه ليعلمه ، فتحصل له درجة الفضيلة على من أعلمه به ، لتعلم مكانته عند ربه ، فلهذا سماه رسولا ، وهذا النوع من الغيب لا يكون إلا من الوجه الخاص ، لا يعلمه ملك ولا غيره إلا الرسول خاصة ، سواء كان الرسول ملكا أو غيره ، فإن اللّه نفى أن يظهر على غيبه أحدا ، وإنما قال بأن الذي ارتضاه لذلك يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، عصمة له من الشبه القادحة فيه ، فهو علم لا دخول للشبه فيه على صاحبه ، وهذا هو صاحب البصيرة الذي هو على بينة من ربه في علمه ، وله ذوق خاص يتميز به ، لا يشاركه فيه غيره ، إذ لو شاركه لما كان خاصا ، فإذا جاء الرسول به لمن يعلمه فذلك ليس عند هذا المتعلم من علم الغيب ، فإن الرسول قد أظهره اللّه عليه ، فما هو عند هذا من علم الغيب الذي لا يظهر اللّه عليه أحدا ، وإنم
هو ما يحصل لأي عالم كان من الوجه الخاص ، ولكنه الآن ليس بواقع في الدنيا ، لكنه يقع في الآخرة ، وسبب ذلك أن كل علم يحصل للإنسان في الدنيا من العلم باللّه خاصة ، فإن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم قد علمه ،
فإنه علم علم الأولين والآخرين ، وأنت من الآخرين بلا شك ، وأما في غير العلم باللّه فقد يعطاه الإنسان من الوجه الخاص ، فلا يعلم إلا منه ، فهو رسول في تعليمه إلى من يعلمه بذلك ، هذا أعطاه مقام محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ،
وليست الفائدة إلا في العلم باللّه تعالى ، فإنه العلم الذي به تحسن صورة العالم في نفسه ، فالعلم باللّه من الرسول في المتعلم أعظم وأنفع من العلم الذي يحصل لك من الوجه الخاص ، إذا كان المعلوم كونا ما من الأكوان ليس اللّه ،
فما الشرف للإنسان إلا في علمه باللّه ، وأما علمه بسوى اللّه تعالى فعلالة يتعلل بها الإنسان المحجوب ،
فإن المنصف ما له همة إلا العلم به تعالى ، فاجهد أن تكون ممن يأخذ العلم باللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتكون محمدي الشهود ، إذ قطعنا أنه لا علم باللّه اليوم عينا يختص به أحد من خلق اللّه
[ الفرق بين الإحاطة والإحصاء : ]
«وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» الفرق بين الإحاطة والإحصاء هو أن الإحاطة عامة الحكم في الموجود والمعدوم وفي كل معلوم ، والإحصاء لا يكون إلا في الموجود ، فما هو شيئية «أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» شيئية «أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً»
فشيئية الإحصاء تدخل في شيئية الإحاطة ، فكل موجود محصي ، وكل محصي محاط به ، وما كل محاط به محصي ، وكل ما يدخله الأجل يدخل الإحصاء ،
فقوله تعالى : «أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» يريد إحصاء كل شيء موجود ، فأحصى كل شيء من حروف وأعيان وجودية عددا ، إذ كان التناهي لا يدخل إلا في الموجودات فيأخذه الإحصاء ، فهذه شيئية الوجود ،
وفيه إشارة إلى الإحاطة الإلهية بجميع الأسماء الكائنة الماضية والكائنة في الحال والكائنة في المستقبل ، فهي لا تختص إلا بالوجود الكائن والذي كان ويكون ، فهو تعلق أخص من تعلق قوله (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) من الواجبات والجائزات والمستحيلات ،
وإن كان بعض العلماء لا يسمي شيئا إلا الموجود فلا نبالي ، فإن اللّه قد أحاط بكل شيء علما ، وقد علم المحال ، ولو خصص صاحب هذا الاصطلاح العلم المحيط في هذه الآية بالموجودات فليس له دليل على ذلك إلا كونه اصطلح على أنه لا يسمى شيئا إلا الموجود ، فالإحاطة هنا على بابها من العموم ، والإحصاء يقتضي التناهي في الشيء الذي أحصي ، والإحاطة إنما هي عبارة عن تعلق العلم بالمعلومات الغير المتناهية هنا ، وقد يكون
الإحصاء هنا على العموم بمعنى الإحاطة ولكن كما قلنا في الكائنات المستقبلة وهي لا تتناهى ، فإن مقدورات اللّه لا تتناهى ، ومعلوماته كذلك أكثر من مقدوراته وغير ذلك ، والإحصاء بالعدد لا يتعلق به ، لأنه لا يجوز عليه ، فيحصي نفسه ، والمحال لا يوصف بالعدد فيتعلق به الإحصاء ، ولكن يحيط به العلم أي معنى ، لعلمه من جميع الوجوه .
(73) سورة المزّمل مكيّة
------------
(28) الفتوحات ج 3 / 79 ، 407 ، 79 - ج 4 / 128 ، 287 - ج 2 / 445 - ج 4 / 325 - كتاب الجلال والجمالتفسير ابن كثير:
وقوله : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) أي : كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس ; لأنهم كانوا يعوذون بنا ، أي : إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كان عادة العرب في جاهليتها ، يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان ، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم ، ( فزادوهم رهقا ) أي : خوفا وإرهابا وذعرا ، حتى تبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم ، كما قال قتادة : ( فزادوهم رهقا ) أي : إثما ، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة .
وقال الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( فزادوهم رهقا ) أي : ازدادت الجن عليهم جرأة .
وقال السدي : كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي ، قال : فإذا عاذ بهم من دون الله ، رهقتهم الجن الأذى عند ذلك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، حدثنا الزبير بن الخريت ، عن عكرمة قال : كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد ، وكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن ، فيقول سيد القوم : نعوذ بسيد أهل هذا الوادي .
فقال الجن : نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم ، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون ، فذلك قول الله : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا )
وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم : ( رهقا ) أي : خوفا . وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( فزادوهم رهقا ) أي : إثما . وكذا قال قتادة . وقال مجاهد : زاد الكفار طغيانا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن المغراء الكندي ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المزني - عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه ، عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي من المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي ، جارك ، فنادى مناد لا نراه ، يقول : يا سرحان ، أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة . وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا )
ثم قال : وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه .
وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل - وهو ولد الشاة - وكان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ، ثم رده عليه لما استجار به ، ليضله ويهينه ، ويخرجه عن دينه ، والله أعلم .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }
أي: كان الإنس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والأفزاع ، فزاد الإنس الجن رهقا أي: طغيانا وتكبرا لما رأوا الإنس يعبدونهم، ويستعيذون بهم، ويحتمل أن الضمير في زادوهم يرجع إلى الجن ضمير الواو أي: زاد الجن الإنس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف، قال: " أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ".
تفسير البغوي
( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر ، قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا أبو القاسم [ عبد الرحمن ] بن محمد بن إسحاق المروزي حدثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرسوس ، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا القاسم بن مالك ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبيه ، عن كردم بن أبي سائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي [ فقال ] يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه ، يقول : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) يعني زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا .
قال ابن عباس : إثما . قال مجاهد : طغيانا . قال مقاتل : غيا . قال الحسن : شرا قال إبراهيم : عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا يقولون : سدنا الجن والإنس ، و " الرهق " في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم .
الإعراب:
(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ) أن واسمها وماض ناقص واسمه (مِنَ الْإِنْسِ) صفة رجال (يَعُوذُونَ) مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة خبر كان وجملة كان خبر أنه وجملة أنه معطوفة على ما قبلها (بِرِجالٍ) متعلقان بيعوذون (مِنَ الْجِنِّ) صفة رجال (فَزادُوهُمْ) ماض وفاعله ومفعوله الأول (رَهَقاً) مفعول به ثان والجملة معطوفة على ما قبلها.