الفتوحات المكية

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة المجادلة: [الآية 3]

سورة المجادلة
وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا۟ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿3﴾

تفسير الجلالين:

«والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودوا لما قالوا» أي فيه بأن يخالفوه بإمساك المظاهر منها الذي هو خلاف مقصود الظهار من وصف المرأة بالتحريم «فتحرير رقبة» أي إعتاقها عليه «من قبل أن يتماسا» بالوطء «ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير».

تفسير الشيخ محي الدين:

أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)


اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

" لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ولو كانوا قرابتهم ، لذلك قال تعالى : «وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» فكونهم حادوا اللّه ورسوله هو الذي عاد عليهم ، فجنوا على أنفسهم ، ومن لم يطلعك اللّه على عداوته للّه فلا تتخذه عدوا ، وأقل أحوالك إذا جهلته أن تهمل أمره ، فمتى لم تعلم عداوته للّه فلا تعاده بالإمكان ولا بما يظهر على اللسان ، والذي ينبغي لك أن تكره فعله لا عينه ، والعدو للّه إنما تكره عينه ، ففرّق بين من تكره عينه وهو عدو للّه ، وبين من تكره فعله وهو المؤمن ، أو من تجهل خاتمته ممن ليس بمسلم في الوقت «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ»

والكتابة من اللّه في قلب عبده دون واسطة ، وأوجب للعبد ذلك حكما سمي به مؤمنا ، والإيمان المكتوب في القلوب يمنع من أن تصدر منهم معصية أصلا انتهاكا لحرمة اللّه ، وإن وقعت فتكون بحكم القدر النافذ لا بقصد انتهاك حرمات اللّه ، أو عن غفلة منهم «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»

وتأييدهم بعد إيراد نور الإيمان على قلوبهم ، إنما يكون بتقويته بأوصاف الروح الروحانية ، من الطهارة وعدالة الأخلاق والأوصاف ، والنزاهة عن أحكام النقص والانحراف ، فبهذه الأوصاف الروحانية الوحدانية الاعتدالية يظهر القلب وآثاره ، ويتميز


بعد أن كان مغمورا ومستورا ومقهورا تحت سلطنة النفس وآثارها ، وكما أن الحق ما تجلى لشيء قط ثم انحجب عنه بعد ذلك ، كذلك من كتب اللّه في قلبه الإيمان فإنه لا يمحوه أبدا ، ومن هؤلاء نواب الحق ، فما كذبوا شيئا مما له وجود في الكون ووجدوا له مصرفا ،

ولذلك قال : «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» فهذا المؤيد به إذا توجه على معدوم أوجده ، وعلى معدل مسوى نفخ فيه روح «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» إن أردت أن تكون من عباد اللّه الذين اختصهم لخدمته ، واصطنعهم لنفسه ،

ورضي عنهم فرضوا عنه ، فتطهّر بالموافقة من المخالفة ،

وكن فيما يرضيه سبحانه من الأعمال في الأقوال والأفعال والأحوال «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» فما يدري أحد ما لهم من المنزلة عند اللّه ،

لأنهم ما تحركوا ولا سكنوا إلا في حق اللّه لا في حق أنفسهم ، إيثارا لجناب اللّه على ما يقتضيه طبعهم .

(59) سورة الحشر مدنيّة

------------

(22) الفتوحات ج 3 / 169 - ج 4 / 59 ، 449 - ج 2 / 166 - ج 1 / 233 - كتاب شعب الإيمان - الفتوحات ج 1 / 359 - ج 3 / 337

تفسير ابن كثير:

وقوله : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ) اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله : ( ثم يعودون لما قالوا ) فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره ، وهذا القول باطل ، وهو اختيار ابن حزم وقول داود ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر ، عن بكير بن الأشج ، والفراء ، وفرقة من أهل الكلام .

وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق .

وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة . وقد حكي عن مالك : أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع .

وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى تظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة . وإليه ذهب أصحابه ، والليث بن سعد .

وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء ، عن سعيد بن جبير : ( ثم يعودون لما قالوا ) يعني : يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم .

وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج . وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( من قبل أن يتماسا ) والمس : النكاح . وكذا قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان .

وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر .

وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر . فقال : " ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ " . قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر . قال : " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ، عز وجل "

وقال الترمذي : حسن غريب صحيح ، ورواه أبو داود ، والنسائي من حديث عكرمة مرسلا . قال النسائي : وهو أولى بالصواب

وقوله : ( فتحرير رقبة ) أي : فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي ، رحمه الله ، ما أطلق ها هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب ، وهو عتق الرقبة ، واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده ، عن معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " . وقد رواه أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال : إني تظاهرت من امرأتي ، ثم وقعت عليها قبل أن أكفر . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألم يقل الله ( من قبل أن يتماسا ) قال : أعجبتني ؟ قال : " أمسك حتى تكفر "

ثم قال البزار : لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه ، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم ، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة .

وقوله : ( ذلكم توعظون به ) أي : تزجرون به ( والله بما تعملون خبير ) أي : خبير بما يصلحكم ، عليم بأحوالكم .


تفسير الطبري :

فيه ثلاثة عشر مسألة: الأولى: قوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم} هذا ابتداء والخبر {فتحرير رقبة} وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل : أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا}[المجادلة : 2] فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عز وجل {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة : الأول : أنه العزم على الوطء، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك : فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني : العزم على الإمساك بعد التظاهر منها، قال مالك. الثالث : العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئه، قال مالك في قول الله عز وجل {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} قال : سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك : وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع : أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس : وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس : أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا : أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. السابع هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا : إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء. وقال أبو العالية : وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال {ثم يعودون لما قالوا} أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} هو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي : فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره. قلت : قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل منه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي : بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات : الأول : أنه قال {ثم} وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني : أن قوله تعالى {ثم يعودون} يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث : أن قوله تعالى {ثم يعودون} على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. فإن قيل : فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا : إذا عزم على خلاف ما قال وراها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول : أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقول {من قبل أن يتماسا}. وهذا تفسير بالغ في فنه. الثانية: قال بعض أهل التأويل : الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون} إلى ما كانوا عليه من الجماع {فتحرير رقبة} لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله {لما قالوا} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش. وقال الزجاج : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل : المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء : اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الأخفش : لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال {الحمد لله الذي هدانا لهذا} [الأعراف : 43] وقال {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات : 23] وقال {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة : 5] وقال {وأوحي إلى نوح} [هود : 36]. الثالثة: قوله تعالى {فتحرير رقبة} أي فعليه إعتاق رقبة، يقال : حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها. الرابعة: فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لأن نصف العبدين في معنى العبد الواحد، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام، ودليلنا قوله تعالى {فتحرير رقبة} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا اشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا. الخامسة: قوله تعالى {من قبل أن يتماسا} أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره : أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة : إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل : وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم. السادسة: قوله تعالى {ذلكم توعظون به} أي تؤمرون به {والله بما تعملون خبير} من التكفير وغيره. السابعة: من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك : إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، وهي: الثامنة: فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل : يبني، قال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه. وقال مالك : إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي. التاسعة: إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله {متتابعين}. ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر وقياسا على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع. العاشرة: إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة : يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى {من قبل أن يتماسا} وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال : صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال : صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم. الحادية عشر: ومن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه. الثانية عشر: ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك. الثالثة عشر: ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل : إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق. فصل وفيه ست مسائل : الأولى : ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر : وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار {من أوسط ما تطعمون} [المائدة : 89] فواجب قصد الشبع. قال ابن العربي : وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبدالحكم : مد بمد هشام وهو الشبع هاهنا، لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط. وقال في رواية أشهب : مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم : قيل له : ألم تكن قلت مد هشام؟ قال : بلى، مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي. وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا. قلت : وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك : أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى {فإطعام ستين مسكينا} وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب : قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي : إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي : وقع الكلام هاهنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول، بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه {فإطعام ستين مسكينا} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب : الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم. الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى {فتحرير رقبة} ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام. الرابعة : وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما. الخامسة: قوله تعالى {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة {لتؤمنوا} أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل : معنى قوله {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور. وقيل له : قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق. السادسة: قوله تعالى: {وتلك حدود الله} أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة. {وللكافرين عذاب أليم} أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.

التفسير الميسّر:

والذين يحرِّمون نساءهم على أنفسهم بالمظاهَرة منهن، ثم يرجعون عن قولهم ويعزمون على وطء نسائهم، فعلى الزوج المظاهِر- والحالة هذه- كفارة التحريم، وهي عتق رقبة مؤمنة عبد أو أمة قبل أن يطأ زوجته التي ظاهر منها، ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر مِن زوجته توعظون به، أيها المؤمنون؛ لكي لا تقعوا في الظهار وقول الزور، وتُكَفِّروا إن وقعتم فيه، ولكي لا تعودوا إليه، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو مجازيكم عليها.

تفسير السعدي

{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } اختلف العلماء في معنى العود، فقيل: معناه العزم على جماع من ظاهر منها، وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة، ويدل على هذا، أن الله تعالى ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس، وذلك إنما يكون بمجرد العزم، وقيل: معناه حقيقة الوطء، ويدل على ذلك أن الله قال: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } والذي قالوا إنما هو الوطء.

وعلى كل من القولين { فـ } إذا وجد العود، صار كفارة هذا التحريم { تحرير رَقَبَةٍ } مُؤْمِنَةٍ كما قيدت في آية أخرى ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون سالمة من العيوب المضرة بالعمل.

{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أي: يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة.

{ ذَلِكُمْ } الحكم الذي ذكرناه لكم، { تُوعَظُونَ بِهِ } أي: يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب، فالذي يريد أن يظاهر، إذا ذكر أنه يجب عليه عتق رقبة كف نفسه عنه، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله.


تفسير البغوي

( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) ثم حكم الظهار : أنه يحرم على الزوج وطؤها بعد الظهار ما لم يكفر ، والكفارة تجب بالعود بعد الظهار . لقوله تعالى : " ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " .

واختلف أهل العلم في " العود " فقال أهل الظاهر : هو إعادة لفظ الظهار ، وهو قول أبي العالية لقوله تعالى : " ثم يعودون لما قالوا " أي إلى ما قالوا [ أي أعادوه مرة أخرى ] . فإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه .

وذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار ، والمراد من " العود " هو : العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار ، وهو قول مجاهد والثوري .

وقال قوم : المراد من " العود " الوطء وهو قول الحسن وقتادة وطاوس والزهري وقالوا : لا كفارة عليه ما لم يطأها . وقال قوم : هو العزم على الوطء ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي .

وذهب الشافعي إلى أن العود هو أن يمسكها عقيب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل ، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه لأن العود للقول هو المخالفة . وفسر ابن عباس " العود " بالندم ، فقال : يندمون فيرجعون إلى الألفة ، ومعناه هذا .

قال الفراء يقال : عاد فلان لما قال ، أي فيما قال ، وفي نقض ما قال يعني : رجع عما قال .

وهذا يبين ما قال الشافعي وذلك أن قصده بالظهار التحريم ، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله فتلزمه الكفارة ، حتى قال : لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها فإن راجعها صار عائدا ولزمته الكفارة .

قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) والمراد ب " التماس " : المجامعة ، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر ، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام ، وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله ، لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس وقال في الإطعام : " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " ولم يقل : من قبل أن يتماسا . وعند الآخرين : الإطلاق في الإطعام محمول على المقيد في العتق والصيام .

واختلفوا في تحريم ما سوى الوطء من المباشرات قبل التكفير ، كالقبلة والتلذذ : فذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم سوى الوطء ، وهو قول الحسن ، وسفيان الثوري وأظهر قولي الشافعي كما أن الحيض يحرم الوطء دون سائر الاستمتاعات .

وذهب بعضهم إلى أنه يحرم ، لأن اسم " التماس " يتناول الكل ، ولو جامع المظاهر قبل التكفير يعصي الله تعالى ، والكفارة في ذمته . ولا يجوز أن يعود ما لم يكفر ، ولا يجب بالجماع كفارة أخرى . وقال بعض أهل العلم : إذا واقعها قبل التكفير عليه كفارتان .

وكفارة الظهار مرتبة يجب عليه عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين ، فإن أفطر يوما متعمدا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ، فإن عجز عن الصوم يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا . وقد ذكرنا في سورة المائدة مقدار ما يطعم كل مسكين . ( ذلكم توعظون به ) تؤمرون به ( والله بما تعملون خبير ) .


الإعراب:

(وَالَّذِينَ) الواو استئنافية ومبتدأ (يُظاهِرُونَ) مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة صلة (مِنْ نِسائِهِمْ) متعلقان بالفعل (ثُمَّ) حرف عطف (يَعُودُونَ) معطوف على يظاهرون (لِما) متعلقان بالفعل (قالُوا) ماض وفاعله والجملة صلة ما (فَتَحْرِيرُ) الفاء زائدة وتحرير مبتدأ مضاف (رَقَبَةٍ) مضاف إليه والخبر محذوف والجملة الاسمية خبر الذين وجملة الذين.. استئنافية لا محل لها، (مِنْ قَبْلِ) متعلقان بتحرير (أَنْ يَتَمَاسَّا) مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والألف فاعله وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة، (ذلِكُمْ) مبتدأ واللام للبعد والكاف للخطاب (تُوعَظُونَ) مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة الفعلية خبر المبتدأ والجملة الاسمية استئنافية لا محل لها (بِهِ) متعلقان بالفعل (وَاللَّهُ) لفظ الجلالة مبتدأ (بِما) متعلقان بخبير (تَعْمَلُونَ) مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة صلة ما (خَبِيرٌ) خبر والجملة الاسمية استئنافية لا محل لها.

---

Traslation and Transliteration:

Waallatheena yuthahiroona min nisaihim thumma yaAAoodoona lima qaloo fatahreeru raqabatin min qabli an yatamassa thalikum tooAAathoona bihi waAllahu bima taAAmaloona khabeerun

بيانات السورة

اسم السورة سورة المجادلة (Al-Mujadila - The Pleading Woman)
ترتيبها 58
عدد آياتها 22
عدد كلماتها 475
عدد حروفها 1991
معنى اسمها (الْجَدَلُ): شِدَّةُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ (المُجَادَلَة) بِفَتْحِ الدَّالِ. وَالمُرَادُ (بِالمُجَادِلَة) بِكَسْرِ الدَّالِ الصَّحَابِيَّةُ: (خَولَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه) رَاجَعَتِ النَّبِيَّ ﷺ وَحَاوَرَتْهُ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا
سبب تسميتها انْفِرَادُ السُّورَةِ بِذِكْرِ قِصَّةِ الْمُجَادِلَةِ، وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى الْمَقْصِدِ الْعَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (الْمُجَادَلَةِ)، وَتُسَمَّى سُورَةَ: ﴿قَدۡ سَمِعَ﴾، وَسُورَةَ (الظِّهَارِ)
مقاصدها بَيَانُ عِلْمِ اللهِ تَعَالى الدَّقِيقِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، فَعَن عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتِ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ المُجَادِلَةُ إَلَى النَّبِيِّ ﷺ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ البَيتِ، ما أسمَعُ مَا تَقُوْلُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا ...١﴾». (حَدِيثٌ صَحيحٌ، رَوَاهُ النَّسَائِي)
فضلها لَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ أَو أَثَرٌ خَاصٌّ فِي فَضْلِ السُّورَة سِوَى أَنَّهَا مِنَ المُفَصَّلِ
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (المُجَادَلَةِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنِ الصَّحَابَةِ y، فَافتُتِحَتْ بِذِكْرِ إِحْدَى الصَّحَابِيَاتِ؛ فَقَالَ: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا ...١﴾ ...الآيَاتِ، وَخُتِمَتْ بِالتَّرَضِّي عَنهُمْ، فَقَالَ: ﴿رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ...٢٢﴾... الآيَةَ. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (المَجَادَلَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الْحَدِيدِ):لَمَّا خَتَمَ (الْحَدِيدَ) بِذِكْرِ فَضْلِ اللهِ بِقَولِهِ: ﴿وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ ...٢٩﴾، افْتَتَحَ (الْمُجَادَلَةَ) بِضَرْبِ مِثَالٍ عَلَى فَضْلِهِ فِي قِصَّةِ المُجَادِلَةِ؛ فَقَالَ: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا ...١﴾.
اختر الًجزء:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
اختر السورة:
1 - ﴿الفاتحة﴾
2 - ﴿البقرة﴾
3 - ﴿آل عمران﴾
4 - ﴿النساء﴾
5 - ﴿المائدة﴾
6 - ﴿الأنعام﴾
7 - ﴿الأعراف﴾
8 - ﴿الأنفال﴾
9 - ﴿التوبة﴾
10 - ﴿يونس﴾
11 - ﴿هود﴾
12 - ﴿يوسف﴾
13 - ﴿الرعد﴾
14 - ﴿إبراهيم﴾
15 - ﴿الحجر﴾
16 - ﴿النحل﴾
17 - ﴿الإسراء﴾
18 - ﴿الكهف﴾
19 - ﴿مريم﴾
20 - ﴿طه﴾
21 - ﴿الأنبياء﴾
22 - ﴿الحج﴾
23 - ﴿المؤمنون﴾
24 - ﴿النور﴾
25 - ﴿الفرقان﴾
26 - ﴿الشعراء﴾
27 - ﴿النمل﴾
28 - ﴿القصص﴾
29 - ﴿العنكبوت﴾
30 - ﴿الروم﴾
31 - ﴿لقمان﴾
32 - ﴿السجدة﴾
33 - ﴿الأحزاب﴾
34 - ﴿سبأ﴾
35 - ﴿فاطر﴾
36 - ﴿يس﴾
37 - ﴿الصافات﴾
38 - ﴿ص﴾
39 - ﴿الزمر﴾
40 - ﴿غافر﴾
41 - ﴿فصلت﴾
42 - ﴿الشورى﴾
43 - ﴿الزخرف﴾
44 - ﴿الدخان﴾
45 - ﴿الجاثية﴾
46 - ﴿الأحقاف﴾
47 - ﴿محمد﴾
48 - ﴿الفتح﴾
49 - ﴿الحجرات﴾
50 - ﴿ق﴾
51 - ﴿الذاريات﴾
52 - ﴿الطور﴾
53 - ﴿النجم﴾
54 - ﴿القمر﴾
55 - ﴿الرحمن﴾
56 - ﴿الواقعة﴾
57 - ﴿الحديد﴾
58 - ﴿المجادلة﴾
59 - ﴿الحشر﴾
60 - ﴿الممتحنة﴾
61 - ﴿الصف﴾
62 - ﴿الجمعة﴾
63 - ﴿المنافقون﴾
64 - ﴿التغابن﴾
65 - ﴿الطلاق﴾
66 - ﴿التحريم﴾
67 - ﴿الملك﴾
68 - ﴿القلم﴾
69 - ﴿الحاقة﴾
70 - ﴿المعارج﴾
71 - ﴿نوح﴾
72 - ﴿الجن﴾
73 - ﴿المزمل﴾
74 - ﴿المدثر﴾
75 - ﴿القيامة﴾
76 - ﴿الإنسان﴾
77 - ﴿المرسلات﴾
78 - ﴿النبأ﴾
79 - ﴿النازعات﴾
80 - ﴿عبس﴾
81 - ﴿التكوير﴾
82 - ﴿الانفطار﴾
83 - ﴿المطففين﴾
84 - ﴿الانشقاق﴾
85 - ﴿البروج﴾
86 - ﴿الطارق﴾
87 - ﴿الأعلى﴾
88 - ﴿الغاشية﴾
89 - ﴿الفجر﴾
90 - ﴿البلد﴾
91 - ﴿الشمس﴾
92 - ﴿الليل﴾
93 - ﴿الضحى﴾
94 - ﴿الشرح﴾
95 - ﴿التين﴾
96 - ﴿العلق﴾
97 - ﴿القدر﴾
98 - ﴿البينة﴾
99 - ﴿الزلزلة﴾
100 - ﴿العاديات﴾
101 - ﴿القارعة﴾
102 - ﴿التكاثر﴾
103 - ﴿العصر﴾
104 - ﴿الهمزة﴾
105 - ﴿الفيل﴾
106 - ﴿قريش﴾
107 - ﴿الماعون﴾
108 - ﴿الكوثر﴾
109 - ﴿الكافرون﴾
110 - ﴿النصر﴾
111 - ﴿المسد﴾
112 - ﴿الإخلاص﴾
113 - ﴿الفلق﴾
114 - ﴿الناس﴾
اختر الًصفحة:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140
141
142
143
144
145
146
147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
169
170
171
172
173
174
175
176
177
178
179
180
181
182
183
184
185
186
187
188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
250
251
252
253
254
255
256
257
258
259
260
261
262
263
264
265
266
267
268
269
270
271
272
273
274
275
276
277
278
279
280
281
282
283
284
285
286
287
288
289
290
291
292
293
294
295
296
297
298
299
300
301
302
303
304
305
306
307
308
309
310
311
312
313
314
315
316
317
318
319
320
321
322
323
324
325
326
327
328
329
330
331
332
333
334
335
336
337
338
339
340
341
342
343
344
345
346
347
348
349
350
351
352
353
354
355
356
357
358
359
360
361
362
363
364
365
366
367
368
369
370
371
372
373
374
375
376
377
378
379
380
381
382
383
384
385
386
387
388
389
390
391
392
393
394
395
396
397
398
399
400
401
402
403
404
405
406
407
408
409
410
411
412
413
414
415
416
417
418
419
420
421
422
423
424
425
426
427
428
429
430
431
432
433
434
435
436
437
438
439
440
441
442
443
444
445
446
447
448
449
450
451
452
453
454
455
456
457
458
459
460
461
462
463
464
465
466
467
468
469
470
471
472
473
474
475
476
477
478
479
480
481
482
483
484
485
486
487
488
489
490
491
492
493
494
495
496
497
498
499
500
501
502
503
504
505
506
507
508
509
510
511
512
513
514
515
516
517
518
519
520
521
522
523
524
525
526
527
528
529
530
531
532
533
534
535
536
537
538
539
540
541
542
543
544
545
546
547
548
549
550
551
552
553
554
555
556
557
558
559
560
561
562
563
564
565
566
567
568
569
570
571
572
573
574
575
576
577
578
579
580
581
582
583
584
585
586
587
588
589
590
591
592
593
594
595
596
597
598
599
600
601
602
603
604


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!