«وأما الذين ابيضَّت وجوههم» وهم المؤمنون «ففي رحمة الله» أي جنته «هم فيها خالدون».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الرباط أن يلزم الانسان نفسه دائما من غير حد ينتهي إليه ، أو يجعله في نفسه ، فإذا ربط نفسه بهذا الأمر ، فهو مرابط ، والرباط ملازمة ، وهو من أفضل أحوال المؤمن ، فكل إنسان إذا مات يختم على عمله إلا المرابط ، فإنه ينمّى له إلى يوم القيامة ، ويأمن فتان القبر ، ثبت هذا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، والرباط في الخير كله ، ما يختص به خير من خير ، فالكل
489
سبيل اللّه ، فإن سبيل اللّه ما شرعه اللّه لعباده أن يعملوا به ، فما يختصّ بملازمة الثغور فقط ولا بالجهاد ، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة : إنه رباط . «وَاتَّقُوا اللَّهَ) يعني في ذلك كله ، أي اجعلوه وقاية تتقوا به هذه العزائم ، وذلك معونته في قوله (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) * (واستعينوا باللّه) فهذا معنى قوله «اتَّقُوا اللَّهَ» * «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أي تكون لكم النجاة من مشقة الصبر والرباط .
------------
(200) الفتوحات ج 4 /
482 ، 347 ،
482
( وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) يعني : الجنة ، ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا . وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن ربيع - وهو ابن صبيح - وحماد بن سلمة ، عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على درج دمشق ، فقال أبو أمامة : كلاب النار ، شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه ، ثم قرأ : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) إلى آخر الآية . قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه .
ثم قال : هذا حديث حسن : وقد رواه ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب ، وأخرجه أحمد في مسنده ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي غالب ، بنحوه . وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الآية ، عن أبي ذر ، حديثا مطولا غريبا عجيبا جدا .
فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال : إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال : ذلك عند قوله تعالى {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} [
يس : 59]. ويقال : إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون؛ فيقول الله تعالى للمؤمنين "من ربكم" ؟ فيقولون : ربنا الله عز وجل فيقول لهم "أتعرفونه إذا رأيتموه". فيقولون : سبحانه! إذا اعترف عرفناه. فيرونه كما شاء الله. فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم؛ وذلك قوله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}. ويجوز "تِبْيَضّ وتِسْوَدّ" بكسر التائين؛ لأنك تقول : ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الألف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب. وقرأ الزهري "يوم تبياض وتسواد" ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز "يوم يبيض وجوه" بالياء على تذكير الجمع، ويجوز "أجوه" مثل {أقتت}. وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم. واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم. الثانية: واختلفوا في التعيين؛ فقال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. قلت : وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال : (يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة) ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب. وقال فيه : منكر من حديث مالك. قال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير. وقال أبي بن كعب : الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم : أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر. هذا اختيار الطبري. الحسن : الآية في المنافقين. قتادة هي في المرتدين. عكرمة : هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به؛ فذلك قوله {أكفرتم بعد إيمانكم} وهو اختيار الزجاج. مالك بن أنس : هي في أهل الأهواء. أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم : هي في الحرورية. وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال : (هي في القدرية). روى الترمذي عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على باب دمشق، فقال أبو أمامة : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. قال : هذا حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم). قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : أهكذا سمعت من سهل بن سعد؟ فقلت : نعم. فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : (فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي). وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجْلَون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم؛ كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها؛ فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع؛ كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء. وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي. الثالثة: قوله تعالى {فأما الذين اسودت وجوههم} في الكلام حذف، أي فيقال لهم {أكفرتم بعد إيمانكم} يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال : هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال أبو العالية : هذا للمنافقين، يقال : أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب (أما) لأن المعنى في قولك : (أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شيء فزيد منطلق). وقوله تعالى {وأما الذين ابيضت وجوههم} هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده. {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.
وأما الذين ابيضَّتْ وجوهم بنضرة النعيم، وما بُشِّروا به من الخير، فهم في جنة الله ونعيمها، وهم باقون فيها، لا يخرجون منها أبدًا.
{ وأما الذين ابيضت وجوههم } فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم بشارة، وذلك أنهم يبشرون بدخول الجنات ورضى ربهم ورحمته { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وإذا كانوا خالدين في الرحمة، فالجنة أثر من آثار رحمته تعالى، فهم خالدون فيها بما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، في جوار أرحم الراحمين، لما بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية
قوله تعالى : ( وأما الذين ابيضت وجوههم ) هؤلاء أهل الطاعة ، ( ففي رحمة الله ) جنة الله . ( هم فيها خالدون )
(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) إعرابها كسابقتها (فَفِي) الفاء رابطة (في رَحْمَتِ) متعلقان بمحذوف خبر اسم الموصول الذين (الله) لفظ الجلالة مضاف إليه (هُمْ فِيها خالِدُونَ) مبتدأ وخبر والجار والمجرور متعلقان بالخبر خالدون والجملة في محل نصب حال.
Traslation and Transliteration:
Waamma allatheena ibyaddat wujoohuhum fafee rahmati Allahi hum feeha khalidoona
And as for those whose faces have been whitened, in the mercy of Allah they dwell for ever.
Yüzleri ağaranlara gelince onlar, Allah'ın rahmetindedir, onlar, o rahmette ebedi olarak kalırlar.
Et quant à ceux dont les visages s'éclaireront, ils seront dans la miséricorde d'Allah, où ils demeureront éternellement.
Doch hinsichtlich derjenigen, deren Gesichter sich erhellt haben, diese befinden sich in ALLAHs Gnade. Darin werden sie ewig bleiben.
![](/images/arrowtop.jpg) |
بيانات السورة |
اسم السورة |
سورة آل عمران (Al-i'Imran - Family of Imran) |
ترتيبها |
3 |
عدد آياتها |
200 |
عدد كلماتها |
3503 |
عدد حروفها |
14605 |
معنى اسمها |
عِمرَانُ: رَجُلٌ صَالِحٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالمُرَادُ بِـ(آلِ عِمْرَانَ): عِيسَى وَأُمُّهُ مَريَمُ وَيَحْيَى عليه السلام |
سبب تسميتها |
ذِكْرُ قِصَّةِ آلِ عِمْرَانَ، وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى المَقصِدِ العَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا |
أسماؤها الأخرى |
اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (آلِ عِمرَانَ)، وَتُسَمَّى سُورَةَ (الكَنـْزِ)، وَسُورَةَ (الأَمَانِ)، وَتُلقَّبُ بِـ(الزَّهْرَاءِ) |
مقاصدها |
بَيانُ الأَدِلَّةِ وَالبَرَاهِينَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَأَحْكَامِ الجِهَادِ وغَيرِهِ، وَردِّ شُبُهَاتِ النَّصَارَى |
أسباب نزولها |
سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، لَمْ يُنْقَل سَبَبٌ ِلنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِهَا سَبَبُ نُزُولٍ |
فضلها |
تُحَاجُّ عَنْ صَاحِبِهَا يَومَ القِيَامَةِ، قَالَ ﷺ: «اقرَؤوا الزَّهْرَاوَيْنِ: البَقرةَ، وآلَ عِمرانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ -أي سَحَابتانِ- أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِما». (رَوَاهُ مُسْلِم).
هِيَ مِنَ السَّبعِ، قَالَ ﷺ: «مَنْ أخَذَ السَّبعَ الْأُوَلَ مِنَ القُرآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» أَيْ: عَالِم. (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحمَد) |
مناسبتها |
مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنِ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالإِشَارَةُ إِلَيهَا.
فَقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ﴾ ...الآيَاتِ،وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ ...الآيَاتِ.
مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (آلِ عِمْرانَ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (البَقَرَةِ):
ذِكْرُ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَوَاتِيم سُورَةِ (البَقَرَةِ) وفي أوَّلِ سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ). |