المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة سبإ: [الآية 14]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة سبإ | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
(1) ما : هنا اسم موصول أي الذي .
" قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» وهي أن تقوم من أجل اللّه ، إذا رأيت من فعل اللّه في كونه ما أمرك أن تقوم له فيه ، إما غيرة وإما تعظيم «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى» فقوله في القيام مثنى ، باللّه ورسوله ، فإنه من أطاع الرسول قد أطاع اللّه ، فقمت للّه بكتاب أو سنة ، لا تقوم عن هوى نفس ولا غيرة طبيعية ولا تعظيم كوني «وَفُرادى» إما باللّه خاصة أو لرسوله خاصة ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلم : [ لا أرى أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الحديث عني فيقول : أتل به عليّ قرآنا ؛ إنه واللّه لمثل القرآن أو أكثر ]
فقوله صلّى اللّه عليه وسلم [ أو أكثر ] في رفع المنزلة ، فإن القرآن بينه وبين اللّه فيه الروح الأمين ، والحديث من اللّه إليه ، ومعلوم أن القرب في الإسناد أعظم من البعد فيه ، ولو بشخص واحد ينقص في الطريق ، فبهذا كان الحديث أكثر من القرآن ، وغايته أن يكون إذا نزل عن هذه الطبقة مثله ، وما عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى الأكثرية إلا والأمر أكثر بلا شك ، فلا ينبغي لواعظ أن يخرج في وعظه عن الكتاب أو السنة
وقد يكون قوله : «مَثْنى» يريد به التعاون في القيام للّه تعالى في ذلك الأمر ، وصورة التعاون أن الشرع في نفس الأمر أنكر هذا الفعل ممن صدر عنه عليه ، فينبغي للعالم المؤمن أن يقوم مع المشرّع في ذلك فيعينه ، فيكون اثنان هو والشرع ، وفرادى أن يكون هذا المنكر لا يعلم أنه معين للشرع في إنكاره ووعظه ، فيقول قد انفردت بهذا الأمر ، وما هو إلا معين للشرع وللملك الذي يقول بلمته للفاعل لا تفعل ، إذ يقول له الشيطان بلمته افعل ، فيكون مع الملك مثنى ، فإن الملك مكلّف بأن ينهى العبد الذي قد ألزمه اللّه به أن ينهاه فيما كلفه اللّه به أن ينهاه عنه ، فيساعده الإنسان على ذلك ، فيكون ممن قام للّه في ذلك مثنى ، ويكون هذا الوعظ مع وعظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مثنى «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» ولا تكون الفكرة إلا في دليل على صدقه أنه رسول من عند اللّه ، وهذا يعني أنه يوصل إلى معرفة الرسول بالدليل .
[ سورة سبإ (34) : آية 47 ]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
[ "قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» الآية ]
- الوجه الأول - «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» فيما بلغه عن اللّه إليهم «فَهُوَ لَكُمْ» «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» فإنه تعالى هو الذي استخدمه في التبليغ . واعلم أن أجر التبليغ على قدر ما ناله في البلاغ من المشقة من المخالفين له من أمته التي بعث إليها ، ولما قاساه ، ولا يعلم قدر ذلك من كل رسول إلا اللّه ، واعلم أن اللّه تعالى له المنة على عباده بأن هداهم للإيمان برسله ، فوجب شكر اللّه وحلاوة الرسول ، فيضمنها اللّه عنهم بأن جعل أجر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم عليه ، وضم في ذلك الأجر ما يجب على المؤمنين من الحلاوة لما هداهم اللّه به ، وذلك على نوعين : النوع الواحد على قدر معرفتهم بمنزلته ممن أرسله إليهم وهو اللّه ، فإن اللّه تعالى فضّل بعضهم على بعض ، والنوع الثاني على قدر ما جاء به في رسالته ، مما هو بشرى لصاحب تلك الصفة التي من قامت به كان سعيدا عند اللّه ، فما كان ينبغي أن يقابله به ذلك الرجل هو الذي يعطيه الحق ، فإن ساوى حال المؤمن قدر الرسالة كان ، وإن قصر حاله عما تقتضيه تلك الرسالة من التعظيم فإن اللّه يكرمه ، لا ينظر إلى جهل الجاهل بتعظيم قدرها ، فيوفيه الحق تعالى على قدر علمه فيها ، فانظر ما للرسول عليه السلام من الأجور ، فأجر التبليغ أجر استحقاق ، وأما من سأل من الصحابة عن أمر من الأمور ، مما لم ينزل فيه قرآن ، فنزل فيه قرآن من أجل سؤاله ، فإن للرسول على ذلك السائل أجر استحقاق ينوب اللّه عنه فيه ، زائدا على الأجر الذي له من اللّه ، وأما من رد رسالته من أمته التي بعث إليها فإن له عند اللّه أيضا أجر المصيبة ، وللمصاب فيما يحب أجر ، فأجره على اللّه أيضا على عدد من رد ذلك من أمته ، بلغوا ما بلغوا ، وله من أجر المصاب أجر مصائب العصاة ، فإنه نوع من أنواع الرزايا في حقه ، فإنه ما جاء بأمر يطلب العمل به ، إلا والذي يترك العمل به قد عصى ، فللرسول أجر المصيبة والرزية ، وهذا كله على اللّه الوفاء به لكل رسول - الوجه الثاني - «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» فإن اللّه تعالى اختص محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بفضيلة لم ينلها غيره من الرسل ،
فإنه تعالى قال لكل رسول (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)
*وعاد فضل هذه الفضيلة على أمته ، ورجع حكمه صلّى اللّه عليه وسلم إلى حكم الرسل قبله في إبقاء أجره على اللّه ، فأمره الحق أن يأخذ أجره الذي له على رسالته من أمته ، وهو أن يوادوا قرابته ، فبعد أن قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول لأمته (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي على تبليغ ما جئت به إليكم (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ولم يقل إنّه ليس له أجر على اللّه ولا إنّه
بقي له أجر على اللّه ، وذلك ليجدد له النعم بتعريف ما يسرّ به فقيل له بعد هذا : قل لأمتك أمرا ما قاله رسول لأمته «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» فما أسقط الأجر عن أمته في مودتهم للقربى ، وإنما رد ذلك الأجر بعد تعيينه عليهم ، فعاد ذلك الأجر عليهم الذي كان يستحقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فيعود فضل المودة على أهل المودة ، فما يدري أحد ما لأهل المودة في قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من الأجر إلا اللّه .
------------
(46) الفتوحات ج 3 / 561 ، 563 - ج 2 / 620تفسير ابن كثير:
يذكر تعالى كيفية موت سليمان ، عليه السلام ، وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه - وهي منسأته - كما قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغير واحد - مدة طويلة نحوا من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض ، وهي الأرضة ، ضعفت وسقط إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإنس أيضا أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك .
قد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب ، وفي صحته نظر ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء ، عن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان سليمان نبي الله ، عليه السلام ، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا . فيقول : لأي شيء أنت ؟ فإن كانت لغرس غرست ، وإن كانت لدواء كتبت . فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب . قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت . فقال سليمان : اللهم ، عم على الجن موتتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب . فنحتها عصا ، فتوكأ عليها حولا ميتا ، والجن تعمل . فأكلتها الأرضة ، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [ حولا ] في العذاب المهين " .
قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال : " فشكرت الجن الأرضة ، فكانت تأتيها بالماء " .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث إبراهيم بن طهمان ، به . وفي رفعه غرابة ونكارة ، والأقرب أن يكون موقوفا ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات ، وفي بعض حديثه نكارة .
وقال السدي ، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي توفي فيها ، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيأتيها فيسألها ، فيقول : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا وكذا . فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت نبت دواء قالت : نبت دواء لكذا وكذا . فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها : الخروبة ، فسألها : ما اسمك ؟ فقالت : أنا الخروبة . قال : ولأي شيء نبت ؟ قالت : نبت لخراب هذا المسجد . قال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ؟ أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس . فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولم تعلم به الشياطين ، وهم في ذلك يعملون له ، يخافون أن يخرج فيعاقبهم . وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه ، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جلدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق . فمر ولم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق . ونظر إلى سليمان ، عليه السلام قد سقط ميتا . فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات . ففتحوا عنه فأخرجوه . ووجدوا منسأته - وهي : العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ؟ فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب ، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة ، وذلك قول الله عز وجل : ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين - قال : فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت - قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب ؟ فهو ما تأتيها به الشياطين ، شكرا لها .
وهذا الأثر - والله أعلم - إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب ، وهي وقف ، لا يصدق منها إلا ما وافق الحق ، ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق ، والباقي لا يصدق ولا يكذب .
وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ) قال : قال سليمان عليه السلام لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني . فأتاه فقال : يا سليمان ، قد أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة . فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، وليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت ، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت . قال : والجن يعملون بين يديه وينظرون إليه ، يحسبون أنه حي . قال : فبعث الله ، عز وجل دابة الأرض . قال : والدابة تأكل العيدان - يقال لها : القادح - فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت ، وثقل عليها فخر ميتا ، فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا . قال : فذلك قوله : ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ) . قال أصبغ : بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر . وقد ذكر غير واحد من السلف نحوا من هذا ، والله أعلم .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان, عليه الصلاة والسلام, كل بناء، وكانوا قد موهوا على الإنس, وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب, ويطلعون على المكنونات، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى, فمكثوا يعملون على عملهم، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام, واتَّكأ على عصاه, وهي المنسأة، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها, ظنوه حيا, وهابوه.
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل, حتى سلطت دابة الأرض على عصاه, فلم تزل ترعاها, حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم، فلو علموا الغيب, لعلموا موت سليمان, الذي هم أحرص شيء عليه, ليسلموا مما هم فيه.
تفسير البغوي
(فلما قضينا عليه الموت ) أي : على سليمان .
قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتا فعلموا بموته .
قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ) وهي الأرضة ( تأكل منسأته ) يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : " منساته " بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره .
( فلما خر ) أي : سقط على الأرض ( تبينت الجن ) أي : علمت الجن وأيقنت ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيا ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل . وذكر الأزهري : أن معنى " تبينت الجن " ، أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك .
وقرأ يعقوب : " تبينت " بضم التاء وكسر الياء [ أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، " وتبين " لازم ومتعد .
وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
الإعراب:
(فَلَمَّا) الفاء استئنافية ولما ظرفية (قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) ماض وفاعله ومفعوله والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما والجملة مستأنفة (ما) نافية (دَلَّهُمْ) ماض ومفعوله والجملة لا محل لها لأنها جواب لما (عَلى مَوْتِهِ) متعلقان بالفعل (إِلَّا) أداة حصر (دَابَّةُ) فاعل دلهم (الْأَرْضِ) مضاف إليه (تَأْكُلُ) مضارع فاعله مستتر والجملة في محل نصب على الحال (مِنْسَأَتَهُ) مفعول به والمنسأة العصا التي يساق بها (فَلَمَّا) عاطفة ولما ظرف زمان أداة شرط غير جازمة (خَرَّ) ماض فاعله مستتر والجملة مضاف إليه (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) ماض وفاعله والتاء للتأنيث والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَنْ) مخففة من أن واسمها محذوف (لَوْ) حرف شرط غير جازم (كانُوا) كان واسمها والجملة خبر أن (يَعْلَمُونَ) الجملة خبر كان (الْغَيْبَ) مفعول به (ما) نافية (لَبِثُوا) ماض وفاعله والجملة لا محل لها لأنها جواب لو غير الجازمة (فِي الْعَذابِ) متعلقان بلبثوا (الْمُهِينِ) صفة، وهذه الآية دليل عظيم على أن الغيب لا يعلمه إلا اللّه وفيها رد على الدجالين والعرافين الذين يزعمون أنهم يعرفون الغيب وهم يستعينون بالشياطين والشياطين محجوبون عن الغيب فلو كانوا يعلمون بموت سليمان عليه السلام لما استمروا في خدمته.